Views: 120 ثورة إعلام ديني؟ الصراع السوري وإعلام النخب السنية – الرقة بوست-Raqqa Post

ثورة إعلام ديني؟ الصراع السوري وإعلام النخب السنية

جاكوب سكوفغارد – بيترسين

ترجمة: حمزة ياسين

 

الإعلام والثورة، كلمتان تجمعهما العديد من الترابطات والاشتباكات، وهذا ليس لمجرد أننا نتحدث عن بروز وسائط الإعلام الجديد باعتبارها ثورات، بل أيضاً لأننا ندرك أن الإعلام مكونٌ حاسمٌ في اتساع رقعة أي ثورة سياسية.

وإذا تحدثنا عن الشرق الأوسط، فقد قدَّم الكتاب الكلاسيكي “إعلام صغير وثورة كبيرة” (١٩٩٤) لأنابيلا سربيني تصويراً جيداً لذلك، ببيانه الدور الذي لعبته أشرطة الكاسيت لخُطب الإمام الخميني خلال الثورة الإيرانية. كما مثَّل طابعاً حياً ـ وإن كان جدلياً ـ في تحليل الحراك الاجتماعي الناجح للشباب في ثورة يناير – فبراير ٢٠١١ المصرية. وفي حين يبدو من غير المعقول افتراض أن هذه الاضطرابات السياسية قد تسببت بها تقنيات الإعلام الجديد واعتبار ذلك أحد نماذج الحتمية التكنولوجية؛ فسيكون من غير المعقول -وبنفس الدرجة- إنكار أن وسائط الإعلام الجديد كانت أدوات جديدة في أيدي الناشطين لتعبئة وتوجيه رفاقهم المتظاهرين وتوثيق عنف النظام ونقل تصوراتهم للمجتمع الدولي.
كان هذا جلياًّ بنفس الدرجة في حالة الثورة السورية التي اندلعت في آذار ونيسان ٢٠١١، حيث أحكم النظام في سوريا قبضة سيطرته على وسائط الإعلام التقليدية المرئية والمطبوعة بصورةٍ شبه كاملة، كما تعود ملكية شركات الإنترنت إلى أشخاص من الدوائر الداخلية للنظام. ومع ذلك، مكَّنت الهواتف الخلوية المتصلة بالأقمار الصناعية المواطنين من أن يتواصلوا ويوثِّقوا ويرسلوا رسائل للإعلام متجاوزين بها حدود الدولة، وخارج متناول النظام أيضاً. هذه الأبعاد التكنولوجية المُبتكرة والخلَّاقة في الثورة السورية كانت موضع دراسة واحتفاء بها من قِبل العديد من المنشورات، ولكن مع ذلك يبقى من الصعب تقييم أثرها على أرض الواقع، فقد اشتعلت الحرب المستعرة بين النظام وكتائب الثوار، ولَم يكن هناك أي ترابط بين الثوار ونشطاء الثورة الإعلاميين في بواكير الثورة.
تسعى هذه الورقة للبحث عن استخدام الإعلام الجديد من قِبَل النخب الدينية السنية، وما يتضمنه ذلك من تحولات على صعيد التفاعل الديني. وقد تم ذلك عن طريق رصد بروز وتطور الإعلام الجديد من قِبَل النخب الدينية، والبحث عن شكل المرجعية والسلطة التي يسعون لتجسيدها، سواءَ أكانوا داعمين للنظام أو معارضين أو جهاديين. وبالإضافة إلى ذلك، سوف تبحث الورقة في الأنماط المحددة المستخدمة وكيف تغيرت. وفي حين يبقى هذا مجرد بحثٍ تمهيدي، إلا أنه يشير لكلٍ من بروز الأنماط الجديدة وتحولات الأنماط التقليدية للتفاعل الإسلامي، مثل الخطب والأناشيد والفتاوى.
الحراك الشعبي والثورة الإعلامية
كانت سوريا قبل الثورة تعيش حالة ركود إعلامي، حتى ضمن المقاييس التي كان عليها العالم العربي، حيث يتَّصف النظام الإعلامي فيها بأنه “تعبوي” وذلك بحسب Rugh (1979)، وهو يعني أن تكون الدولة مالكةً للإعلام، ويقوم النظام بتوظيفه للدفع نحو تحولات سياسية في المجتمع وسكانه. بعد فترةٍ قصيرة من استلام بشار الأسد للحكم عن والده حافظ في عام ٢٠٠٠، بدأت سياسات تفكيك القيود المُسلَّطة على الإعلام ولكنها سرعان ما أصبحت طَي النسيان، ومنذ انبثاق “المجال العام العربي الجديد” في التسعينيات، بقيت سوريا على هوامشه (Lynch 2006; 2015)، حيث لم تنشأ أيَّة محطة تلفازية عربية قوية في الدولة، كما كانت الصحف العربية تميل نحو تجاهلها، نظراً لصعوبة الحصول على معلومات موثوقة من النظام السلطوي وجهازه الإداري. وجميع الوسائط الإعلامية القوية كانت مملوكة من قِيَل الدولة، ويسيطر المقرَّبون من النظام على الصحف غير الرسمية القليلة. فقط في قطاع الإنتاج الدرامي التلفازي أحدثَ المنتجون السوريون في القطاع الخاص أثرهم، ولكن عن طريق كونهم مصدِّرين لصالح المحطات التلفازية الخليجية واللبنانية المعروفة.
قامت الثورة لتغيير كل ذلك، ففي حين استمر إعلام الدولة بدايةً بتصوير المشهد على أن الإعلام الرسمي ما زال المصدر الوحيد للأخبار في البلاد، اهتم الإعلام الخارجي اهتماماً ملحوظاً بتصاعد الاحتجاجات (السلمية في بداياتها). وبالرغم من ترددها في البداية، قامت القناتان العربيتان الأساسيتان “الجزيرة” و”العربية” بتغطية الثورة بتعاطفٍ واضح مع المتظاهرين، وهو ما أثار غيظ النظام السوري وبشار الأسد بشكل شخصي. وكان الناشطون على تواصل مباشر مع محطات إخبارية معارضة أو أجنبية تقع خارج حدود الدولة، وذلك عن طريق التواصل مع الأقمار الصناعية من هواتفهم الذكية، وتوظيفها لغايات توثيق هجمات النظام، بالإضافة لغايات التعبئة والتنسيق والتواصل الاستراتيجي. أسس داعمو النظام قنوات فضائية غير رسمية، كما قام إعلاميون معارضون بتأسيس قنوات في الخليج، والأهم من كل ذلك، قامت إيران وحليفها حزب الله بحشد أجهزتها الإعلامية لدعم النظام السوري.
وبما أن الإعلام السوري كان تحت سيطرة الدولة وفي حالة تخلُّف وضعف في الإبداع، فقد كانت هذه أيضاً بالتأكيد حالة وسائط الإعلام الديني. خلال سنوات حكم بشار الأسد (٢٠٠٠- …) تقبلَّت الدولة السورية العلمانية تحت قيادة حزب البعث حدَّاً معيناً من النشاط والحضور الديني، كما عمِلَت على ترويج رؤيةٍ لنمطٍ محدد من التدين السوري المحافظ عبر مختلف الأديان ونشر رسالة التسامح الديني عن طريق المنشورات والمؤتمرات السنوية. ولكن بحكم حظر النظام لجماعة الإخوان المسلمين، وإدراكه للإمكانيات السياسية للإسلام السني، لم يكن النظام مهتماً بالدعوة الإسلامية، والمنشور السني الديني الوحيد المسموح بنشره خلال العقود السابقة هو مجلة نهج الإسلام الشهرية، التي تصدر عن وزارة الأوقاف الإسلامية.
مع ذلك، لم تستمر هذه الحالة المريحة من المحافظة على جهل المواطنين عن التصورات البديلة للأحداث إلى النهاية، فاقتضت ثورة القنوات الإعلامية الفضائية أن بإمكان السوريين أن يختاروا المشاهدة بين المئات من القنوات الفضائية، وليس في يد النظام حيلة أمام ذلك. ومع مجيء وقت الثورة، كان هناك حوالي ١٣٢٠ محطة تلفازية تذيع باللغة العربية، وحوالي الـ ١٠٪ منها يمكن اعتبارها إسلامية، ومعظمها تعود لمسلمين من السنة (Gala 2014, 9-10). وبحلول عام ٢٠٠٧، تم تأسيس قنوات تتبنى التصور السلفي (الطهوري) للدعوة الإسلامية في مصر والسعودية، وقد وصلت إلى قاعدة جماهيرية عبر العالم العربي، ما أثار حفيظة الأنظمة العربية. وفي حين كان النظام السوري معادياً بقوة لأي توجه إسلامي، كان النظام متوجساً بشكل أساسي من الإعلام الإسلامي مثل العديد من الأنظمة، وربما أقل قلقاً من السلفيين الذين كانوا يجتنبون المجال السياسي كما يبدو (Pierret 2011, 134)، وعلاوة على ذلك، فمنذ بدايات الألفين، كان لأجهزة الاستخبارات السورية علاقات عمل مع تجمعات سلفية جهادية في لبنان والعراق (O’Bagey 2012, 13-15).
وبالتالي، وقبل صعود الثورة، كان النظام يشعر بضغط لتحقيق رد فعل للكمية المتزايدة من الدعوة السلفية والإسلامية التي تجتاح البلاد عن طريق القنوات التلفازية أو الإنترنت. وبالإضافة لموقع الوزارة، قامت مجموعة من الشخصيات الدينية المعروفة الموالية للنظام بفتح مواقع شخصية على الإنترنت، وهم بشكل أساسي مفتي سوريا أحمد حسون والداعية المعروف على القنوات الفضائية الشيخ سعيد رمضان البوطي، والداعية المشهور عبر محطات الراديو الشيخ محمد راتب النابلسي، وذلك بالإضافة لمبادرة خاصة وبموقع متقدم هو نسيم الشام الذي يقدِّم خدمة الفتاوى التفاعلية وخطب الجمعة للدعاة الأساسيين، بصيغتي الـ PDF والمسموع.
للشيخ البوطي بشكل خاص تاريخ طويل في مواجهة الفكر السلفي وفي تقديم طرح إسلامي بديل أكثر تجذراً وأصالة، وذلك بالاستناد إلى التقاليد الفقهية الأشعرية الشافعية التي ينتمي لها معظم السوريون (Pierret 2011, 99-106). يمتلك البوطي أتباعاً كُثُر، كما تمت مكافئته لبقاءه في موقف موالٍ لحافظ – والد بشار الأسد – وذلك خلال ثورة الإسلاميين مع بداية الثمانينات. مع بداية ثورة ٢٠١١، وجد البوطي فرصة مواتية أخرى ليسحب تنازلات من بشار نظير استمرار تبنيه خطاباً مناهضاً للثورة التي كان سوادها الأعظم من السنة، فكانت إحدى مطالبه هي إنشاء محطة تلفازية سنية رسمية باسم “نور الشام” وهو ما حصل على الفور فافتُتِحت القناة في شهر آب من عام ٢٠١١. وكما يشير اسم القناة، كانت الفكرة هي دحض الدعاية السلفية والإسلامية عن طريق طرح خطاب مقابل يستند على مقاربة مفادها أن هذه الأنماط من الإسلام تنتمي للخليج العربي وتعتبر أجنبية بالنسبة للتقاليد الدينية للسوريين، وقد تم افتتاح القناة بندوة تصدرها الشيخ البوطي والمفتي ووزير الأوقاف الإسلامية لمناقشة “العدوان ضد الإسلام” الذي يتزعمه الغرب والدعاة الخليجيين (al-Buti 2011a).

اُغتيل الشيخ البوطي في آذار ٢٠١٣ عن عمر يناهز الـ ٨٣ عاماً بقنبلة صغيرة خلال درس له في مسجد في دمشق، وقد بدت ظروف مقتله غامضة، كما أظهر التلفزيون الرسمي صوراً غير مقنعة لقنبلة انتحارية، ولكن من الصعب فهم لِمَ يمكن أن يقوم أحد رجال النظام بقتله. خلال العامين الأولين من الثورة، دعم البوطي النظام بدون تردد من خلال خطبه وفتاويه، بعض فتاويه على موقع نسيم الشام أخذت تعكس الدرجة التي زحف فيها العنف إلى مجال السلطة الدينية والتوجيه الأخلاقي؛ بدءا من قبوله الصلاة قسرياً على سجادة تحتوي على صورة الرئيس، وحتى فتواه التي تعطي رُخصة للجندي الذي يطلق النار عشوائياً على حشود المتظاهرين (al-Buti 2011a).
تعدُّ فتاوى البوطي أمثلة على الكيفية التي يصعد فيها الصراع العنيف بشكل تدريجي إلى الأنماط الدينية الخالية بطبيعتها من مكوِّن عنيف، وكيف أصبحت اليوم منتشرة عبر الإعلام الجديد. فيما بعد، سيشترك رؤوس الإعلام الدينيين السنيين التابعين للنظام بشكل كامل في الحشد وإعلان الجهاد وتهديد الثوار. المفتي أحمد حسون، والذي فقد أحد أولاده على يد الثوار في ٢٠١٢، نشر دعوةً للجهاد ضد الثورة (al-Tamimi 2013)، كما هدد أوروبا بالإرهاب ويُزعم أنه سمح بقتل المدنيين (SA 2015).
ستُبثُّ الثورة على موقع اليوتيوب YouTube وتأخذ مساراً عنيفاً
في سياق المعارضة، هناك نموذج مبكِّر لهذا الدخول في الصراع عن طريق تأسيس أنماط إسلامية حيث تُقدم خطب على موقع اليوتيوب فيها النصيحة للنظام الحاكم بتغيير أسلوبه، وتنتقل فيما بعد إلى استنكار ما يفعل ضمن خطبة تُعرف بـ “كلمة الحق”. خلال أشهر من الثورة، بدأ رجال من داخل سوريا بتسليح أنفسهم، بالتحالف مع منشقين عن الجيش، وعمِلت الجماعات والوحدات والكتائب على الكشف عن نفسها على موقع اليوتيوب، بألقاب إسلامية وصيحات “الله أكبر”. وقد أصبحت الهواتف الذكية وموقع اليوتيوب الخيار الدائم بالنسبة للناشطين السوريين، حيث تم استخدامها في البداية لتصوير عنف النظام ورفع الفيديوهات لأغراض التوثيق، ووفَّرت لهم القدرة على التصوير والإخراج اللحظي، ودرجة عالية من المصداقية وسرعة في الانتشار. يعني هذا أيضاً وجود نهضة للأنماط الإسلامية التقليدية التي عانت تحت وطئة الخُطب العمومية المكتوبة مُسبقاً، وهو ما ينطبق أيضاً على الأناشيد الدينية وتلاوة القرآن. أصبحت خُطَب اليوتيوب تُتداول ضمن دعاة سلفيين متطرفين يدعون المؤمنين للتسلُح ضد العدو- وأصبح يُشار إلى الانتماء الديني بدلاً من السياسي، فقد أُطلِق على النظام ومؤيديه اسم النصيريين (وهو اسم أقدم للعلويين، دلالةً على أنهم يتَّبعون ديناً خاصاً بهم، وليس الإمام علي)، وأُطلِق على أعوانهم الإيرانيين اسم الصفويين (كاستحضار لمواجهات القرنين الـ 17 و18 بين إمبراطوريتي العثمانيين السنة والصفويين الشيعة).
كان أبرز عالم سني من دعاة الحرب في صف الثوار هو الشيخ عدنان العرعور، وهو شيخ سلفي من حماة يعيش في المنفى في مدينة الرياض، وهو معارض عنيف لنظام الأسد قبل مدة طويلة من اندلاع الثورة. ومن قناته التي تُذاع من الرياض، دعا للحرب ضد العلوية والشيعة، وعمل بنشاط على تحويل الثورة إلى صراع طائفي للسيطرة على سوريا. لدى العرور برنامج يُذاع على محطة تلفازية والتي أصبحت تُذاع فيما بعد على موقعه الشخصي وتُنشر على حساباته على الفيسبوك وتويتر واليوتيوب.يُعد الشيخ عرور مثالاً نادراً نسبياً على عالم مسلم استغل وجود الإعلام الجديد بشكل كامل، فمعظم العلماء لا يعرفون كيف يقومون بذلك، وعلماء النظام مثل البوطي، الحسون كانوا بالكاد يتحصلون على أشخاص (من جيلٍ آخر) ليساعدوهم في ذلك. يمكن القول أن الطريق كان مغلقاً أمام مشايخ المعارضة للاستفادة من أدوات الإعلام التقليدية والمألوفة، وهو ما يعني أنهم مضطرون شاءوا أم أبوا أن يستكشفوا وسائط الإعلام الجديد، فقد مكنهم بُعدهم عن سوريا، مع توافر المال والتقنيات الإعلامية المتاحة في عواصم الخليج (يقيم السلفيون عادة في الرياض ومدن الكويت، ويقيم المشايخ الإسلاميون عادة في الدوحة)، أقول مكَّنهم ذلك من الانتقال للإعلام الجديد. من دون انتشار الهواتف الذكية في سوريا (والصراع الدائم لتأمين الكهرباء لشحنها)، لما كان هناك إلا تأثير صغير على أرض الواقع، فبحكم المناطق الواقعة تحت سيطرة الثوار، كان صعباً على الإعلام الجديد أن ينافس الوسائط القديمة، ولكنه – وبكل بساطة – ملأ فراغاً ما.
دخول تنظيم الدولة الإسلامية
من البدايات الصغيرة في 2012، بدأت المجموعات الجهادية بالتركيز على سوريا، كما بدأوا بالكشف عن أنفسهم في الفضاء الإلكتروني منذ 2013. لقد كُتِبَ الكثير عن الدهاء الإعلامي لدى تنظيم الدولة الإسلامية، بعد تموز 2014. فبمقارنة نشاطها الإعلامي مع نشاط تنظيم القاعدة خلال فترة أسامة بن لادن (والذي قُتِل في 2009) يُظهر حجم التطور الذي حققوه، ففي حين كانت تُنتج القاعدة في أفغانستان أشرطة فيديو رديئة، وكان يتم تهريبها عبر مسافات شاسعة لتصل إلى قناة الجزيرة التي تقوم بدورها باتخاذ قرار عرضها أم لا؛ عمِلَ تنظيم الدولة على إنتاج أفلام فنية ومجلَّات لامعة وصُحُفٌ سينمائية من كل ولاية ونشر العشرات منها بشكل يومي ولحظي عن طريق الإنترنت حيث يعاد إنتاجها ونشرها من خلال الداعمين حول العالم. وبالرغم من ذلك، تمكَّن أسامة بن لادن في أيامه وبفيديوهاته البسيطة من تأسيس الأجندة الجهادية بشكل حاسم وبنفس درجة الدولة الإسلامية، وقد تمكَّنت القاعدة اليوم من النهوض بنشاطها الإعلامي لتُجاري مستوى تنظيم الدولة.
مع ذلك فإن هناك اختلافات أخرى بين الاستراتيجيات الإعلامية لدى كلا الجماعتين، ليس أقلها الطريقة التي تم بواسطتها تأسيس وفرض السلطة. ففي فيديوهات القاعدة منذ بدايات الألفين، كان المتحدِّث هو أسامة بن لادن، لقد كان يُجسِّد القاعدة، كما كان أسلوبه هادئاً ورزيناً؛ كان ذلك يُظهر العقلانية وضبط النفس ليُقنع المُستمع بأنه يعلم ما الذي يفعله، ولا تزال فيديوهات مشابهة تُنشر من تنظيم القاعدة عن طريق خليفته أيمن الظواهري. على النقيض من ذلك، نشر تنظيم الدولة فيديو واحد لزعيمه أبو بكر البغدادي، وقد كان عبارة عن خُطبَتَه الافتتاحية كخليفة في رمضان (تموز) ٢٠١٤، حيث دعا فيها إلى الجهاد، وقد كانت الخُطبة وعظيةً واحتفالية، وُتظهر سلطته بدلاً من محاولة تبريرها.
وعِوَضاً عن ذلك، تُقدِّم فيديوهات تنظيم الدولة مادةً مشوِّقة، فنحن نُشاهد أعضاء التنظيم وهم يُحَضِّرون ضرباتهم، وفي خضمِّ المعارك، وأثناء تفجيرهم للمباني الأثرية، وفي ملاحقتهم للشيعة، وفي إعداماتهم للسجناء، وعددهم كبير، وغالبا ما يكونوا مجهولي الهوية. ولكننا نشاهد مقابلات معهم أيضاً، نراهم في دورياتهم، وفي تفاعلهم مع المواطنين، وفي تعليمهم للأطفال، ومشاهد تدريباتهم، وسحبهم الناس للمحاكمة. كما نراهم وهم يرتاحون ويشربون الشاي ويلعبون وحتى وهم يسبحون: حياةً نشيطةً ومليئة لدولة حديثة التأسيس ولكنها مؤمنة ومتناغمة. كما يعود أسلوب أسامة بن لادن للظهور ولكن في خُطَب أبو محمد العدناني بشكل أساسي، الناطق الرسمي الذي قُتِلَ في صيف ٢٠١٦. ولكن للفيديوهات قصةٌ أخرى للرواية، فتحت عنوان: تعال إلى أرض المؤمنين؛ سوف يتم الترحيب بك وتقديرك، وستحصل على أصدقاء وعائلة، وعلى شعور عالٍ بالمعنى، يتمُّ تأكيد هذا أيضاً من خلال المقابلات مع المقاتلين القادمين من أوروبا والذين عبروا عن حياتهم السابقة المليئة بالذنوب ضمن أشخاص مذنبين، وكل ذلك تحت النص الفرعي: في الغالب أنت لا شيء، لذا تعال لتصبح شيئاً. يمتلك تنظيم الدولة بالتأكيد إقليماً ليسود عليه ويسلِّحه.
ينشر تنظيم الدولة أيضاً مجلة على الإنترنت باللغة الإنجليزية (دابق) والفرنسية (دار الإسلام) والعربية (النبأ) ومجلات مشابهة بالتركية (القسطنطينية) والروسية ولغات أخرى، وجميعها مُنتجة إنتاجاً لائقاً. قام تنظيم القاعدة بعمل نفس الشيء منذ ٢٠١٠، وإن لم تكن منتظمة، فنشر في البداية مجلة “Inspire” (إلهام) و”Resurgence” (العودة) في ٢٠١٤، والتي لم يُنشر منها إلا عددان. الاختلافات في الاستراتيجية بين مجلات تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة قد تم تحليلها ومقارنتها بمجلة دابق من قِبَل سيلين نوفيناريو والتي أشارت إلى أن القاعدة توجِّه اهتمامها نحو الغرب، في حين تركِّز مجلة دابق بشكل أساسي على التجنيد للخلافة، ولكنها تزيد تركيزها بشكل كبير في سياقات العنف والتخويف (Novenario 2015). ومن الجدير بالذكر أنه عندما أُجبر تنظيم الدولة على اتخاذ موقع دفاعي، قام بتغيير استراتيجيته نحو تجنيد المقاتلين الذي يحافظون على مكان إقامتهم ويشنون هجمات على الدول الغربية.

وباقتناص فرصة سهولة النشر عبر الإنترنت، صُمِّمت المجلات بحيث تظهر وكأنها مجلات ورقية، ولكن مجلات القاعدة تبدو موجهةً بشكل أساسي للمؤمنين بها سلفاً، فالعدد الأخير الصادر عن مجلة العودة التابعة للقاعدة هو عبارة عن مقابلة من ٩٠ صفحة مع شهيد جهادي غربي هو أدهم غدن، في حين أن المقالات في مجلة تنظيم الدولة أقصر بكثير، وتأتي مدعَّمة بالعديد من الصور التي غالباً ما تكون مليئة بالعنف.
كما بدأ تنظيم الدولة بنشر أعمال محمد بن عبد الوهاب عبر الإنترنت، وعبد الوهاب هو داعية سلفي من العالم العربي في القرن الـ ١٨، وهو من ملهمي تنظيم الدولة بشكل واضح، ولكنه – بالتأكيد – أيضاً مؤسس نمط الإسلام الخاص بالمملكة السعودية العربية. ويعد نشر وتوزيع أعماله شكلاً من المطالبة بإرثه، وموجَّه ضد السعودية التي تُعتبر عدواً خاصاً لتنظيم الدولة (Bunzel 2016, 1; 8).
يتألف النشاط الإعلامي الجهادي الأساسي اليوم من الفيديوهات أو البيانات الصغيرة المنشورة بصيغة PDF على صيغة بيان صحفي، ولكن هذه المنشورات نمت بشكل مضاعف عند كل من تنظيم الدولة ومنافستها في سوريا جبهة النصرة، حيث ارتفع إلى معدل عشرة فيديوهات بشكل يومي، وذلك بحسب ما سجله الموقع المسحي Jihadology.net. معظم ذلك موجود لأغراض التباهي بالإنجازات على الجبهة، في حين لا يزال بعضها يُعبِّر عن أنشطة أكثر سلمية، ولكنها تبقى مرتبطة بطابع أيديولوجي. قامت جبهة النصرة في رمضان ٢٠١٦ بعرض مسلسل يومي للمعارك الأساسية المنتصرة من قِبَل المسلمين خلال رمضان، بالإضافة إلى مسلسل آخر عن مكاتب الدعوة لكل منطقة في إقليمها. في المقابل تستمر داعش في بث الأناشيد وتلاوة القرآن، وقامت ولايتها المختلفة في رمضان بنشر فيديوهات صغيرة لمعارك للتشويق لأفلام أطول تتناول طابعاً معيناً مثل “هداية الناس” و”بمناسبة الذكرى السنوية الثانية للخلافة الإسلامية”.
تتسم النشاطات الإعلامية لتنظيم الدولة بالاتساع، وبحسب ما تقوله عن نفسها في مجلة الفرقان التي تُنشر من قِبَل مكتبها الإعلامي الخاص، فإن النشاطات الإعلامية تخضع لإدارة المجلس الإعلامي (ديوان الإعلام) وهو جزءٌ من ١٤ مجلس حكومي في الدولة (Islamic State 2016b). بالإضافة للمجلات المذكورة، يدير تنظيم الدولة محطة تلفازية وسلسلة من المحطات الإذاعية على الراديو المحلي، ومكتب للترجمة ودورات تدريب في مجال الإعلام. وقامت إحدى وسائلها الإعلامية في حزيران ٢٠١٦ –  ولاية الخير – أيضاً بإنتاج فيلم عن الحرب الإعلامية الموجهة ضد تنظيم الدولة وكيف يستجيب لها التنظيم، وتحت عنوان “وحي الشيطان”، يُظهر الفيديو خمسة رجال كشفوا معلومات للعالم الخارجي عن مدينتهم دير زور الواقعة تحت حكم التنظيم مقابل بعض الدولارات كما يدَّعي التنظيم (Islamic State 2016a)، ونراهم يعترفون ثم يتم إعدامهم، إما بقطع رقابهم، أو عن طريق ربطهم بجهاز حاسبوهم الخاص أو بكاميراتهم التي تنفجر بهم. وبين هذه الإعدامات الخمسة، يقول الراوي قصة الخونة الأوائل في عصر النبي وكيف تم التعامل معهم، وفي النهاية يقدِّم الفيديو معلومات عن النشاطات الإعلامية لتنظيم الدولة، بما فيها الأربعين مكتب التابعين لها.
إذن، ماذا عن المرجعية الدينية؟ بحسب تنظيم الدولة، هناك شخص واحد يمتلك السلطة الدينية الفعلية، وهو المسمَّى بالخليفة، أبو بكر البغدادي. فيما عدا خطبته التدشينية فإنه لم يظهر إلا قليلاً، عن طريق خطابات مسجَّلة، ومع ذلك، يُستشهد به كثيراً في مواد تنظيم الدولة. والأكثر تكراراً – بالرغم من ندرتها – هي خطابات الناطق الرسمي باسم التنظيم أبو محمد العدناني التي تصدر بصيغة صوتية. ولا يُعترف بالمرجعية الدينية لهذين الرجلين خارج دوائر التنظيم، بالرغم من أن البغدادي يحمل شهادة من معهد ديني في العراق. وبشكل عام، يواجه تنظيم الدولة صعوبات في استجداء العلماء من خارج دائرة التنظيم. تمت عملية ترشيح البغدادي لمنصب الخلافة عن طريق العلماء من داخل التنظيم وهم غير معرَّفين كمرجعيات سنية بالنسبة لمن هم خارج التنظيم، فقد قامت غالبية شبكات العلماء على الصعيد الوطني والعالمي بتوجيه إدانة شديدة للتنظيم، حتى أن مشايخ جهاديين معروفين قاموا بالتبرِّي من التنظيم وانخرطوا في المحاججة ضده، وقد تبع ذلك غالبية المجادلات بين تنظيم الدولة والقاعدة (Skovgaard-petersen 2016). وكان لهذا فهم يسير في البروباغاندا الإعلامية التي كرَّس لها تنظيم الدولة مساحة كبيرة لاستنكار وشجب وتخطيء وإضعاف وانصياع العلماء في هذا العالم؛ فحمل شهادات دكتوراه أو درجات أخرى من جامعات من الخارج ليس – في نظر التنظيم – دليلاً على الدرجة العلمية بل هو دليل على الفساد، وهذا لا يعني جهلهم التام. من الناحية العقدية، يتَّخذ التنظيم موقفاً عقدياً يتماهى بدرجة ما مع تنظيم القاعدة والتيارات السلفية الأخرى، ومن الناحية الفقهية، يتَّبع التنظيم هذا التراث، وبشكل خاص تراث محمد بن عبد الوهاب المذكور سابقاً، آخذاً مقولاته وعقوباته على نحو أكبر مما قامت به الجماعات السلفية بشكل عام. سيبقى التنظيم مع ذلك يستشهد بآيات القرآن والأحاديث، وبتعليقات العلماء التقليديين المعروفين عليها، ويُظهر بالتالي موقفاً مؤمناً بالتراث ويوجه نقداً ضمنياً للاتهامات بالانحراف الموجَّهة إليه، كما في قضية العبودية على سبيل المثال.
خُلاصة
قبل عشرة أعوام، كانت جميع المواد الإعلامية المُنتَجة في سوريا من إخراج وتوزيع النظام أو رجاله الموثوقين، وكان النظام يتمتع بالقدرة والكفاءة على مراقبتها والتحكم بها، وكان السوريون بشكل عام مضطرين للتكيف مع هذا الواقع، وإن كان القليل منهم على قناعة بأن ما يعرضه النظام في إعلامه يمثِّل الصورة الحقيقية للأحداث، وبالتالي كان أمراً مربكاً أن يشاهدوا تكاثر الوسائط الإعلامية التي تتبنى تصورات شديدة الاختلاف عن العالم.
لقد تتبعنا الاتساع الدرامي للنشاط الإعلامي في سوريا، منذ السيطرة شبه الكاملة للدولة على تدخل المحطَّات التلفازية العربية، وحتى بروز المنافذ الإعلامية المعارضة وإعلام الثورة، وانتهاءً بتأسيس كيان منافس على الأراضي السورية يحظى بوزارة إعلامية خاصة به وبوفرة في القنوات ومحطَّات البث ووسائط الإنترنت. وبالتأكيد، فإن تنظيم الدولة يحظى بتحكمٍ في المشهد الإعلامي على نحو أشمل وأكبر مما كان عليه حزب البعث في أي وقت مضى، وبلغة النُظم الإعلامية، يمكن وصف إقليم تنظيم الدولة بأنه نظام إعلامي شمولي، يهدف إلى جعل سكانه يؤمنون ويتصرفون بناءً على البروباغاندا التي يقدِّمها، بدلاً من إخضاعهم لنظام تأديبي لكي يُذعنوا لخطابه الرسمي (Wedeen 1999, 74-75).
لم يكن ممكناً أن يكون هذا تاماً بهذا الشكل في مكانٍ إلا في حقل الإسلام السني، كانت هذه إحدى المساحات التي حرص فيها النظام على فرض الرقابة والتقييد التام، ومع ذلك، كانت رياح التغيير موجودة حتى في هذه المنطقة وقبل ثورة ٢٠١١. وفي لحظة الثورة، حصل مشايخ مهمون عالميون على مساحة التلفزيون عن طريق قنوات دينية (وعن طريق قناتي الجزيرة والMBC1) المهيمنتين على جمهور من داخل سوريا، وقاموا بالدعوة إلى تصور عن الإسلام مختلف عن ما ينشره مشايخ النظام السوري. وعندما بدأت الثورة، بدأ المشايخ السوريون أيضاً باتخاذ خطوات للرد ووجدوا طرقاً جديدة أكثر قوة لإيصال رسالتهم عن طريقها، وعادت الخطب التي يغلب عليها الاعتدال، في حين بث الإعلام الجديد خطاباً أكثر سياسية مع الاعتماد على التجييش العاطفي. اضمحل الطابع الأدبي ليفسح المجال لأشكال شفهية وسمعية مثل الغناء وتلاوة القرآن.
توجَّه الإعلام والبرامج والمحتوى الديني السني منذ ٢٠١١ نحو المقدِّمة، وأصبح في مقدمة الاهتمام والقلق والخوف العام، وخلال الشهور الأولى من المظاهرات السلمية الحاشدة، كانت هناك عملية نشر لرسائل دينية أكثر تشدداً أدارها فاعلون محددون محسوبون على المعارضة وذلك بالإضافة لبعض المرجعيات السنية الداعمة للنظام. أصبحت الشرعنة الدينية للاقتتال والقتل هي المعيار عند كلا طرفي الصراع السياسي، وليس فقط بين المسلمين السنة، وقد أدى هذا إلى صعود الاقتتال الطائفي وهيَّأ الطريق لبروز إعلامٍ سني (وشيعي) شوفيني وجهادي بالفعل.
انخرط كل من تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة -أبرز الجماعات الجهادية السنية- في الإعلام عبر الإنترنت على نطاق واسع وبنتائج مدهشة ومخيفة حقاً، كما قاموا بإحداث تجديد جذري لرسالة الإعلام الإسلامي على مستويات عديدة، وذلك عن طريق توظيف تصورهم الخاص عن الأيدولوجية السلفية الجهادية. مع ذلك فهم يفتقدون لقيادات دينية معروفة ومؤثرة، كما أنهم لا يملكون أنصاراً من العلماء، ولا تشُكِّل السلطة الدينية الرسمية نقطة قوةٍ بالنسبة لهم، وبدلاً من ذلك، يوجهون ذات النقد الخبيث لطبقة العلماء القائمة في سوريا والعراق، باعتبارهم يخدمون القادة السياسيين لهذه الدول. تترسَّخ ادعاءاتهم الدينية في الفيديوهات التي تُنشر من قِبَل مؤسساتها ومقاتليها، لا باسم زعماء دينيين، ويُمكن أن يشكِّل هذا نقطة ضعف، كما يمكن أن يشير أيضاً إلى طريقة ليتغلب العلماء المسلمين على الأزمة الدينية السنية التي تقع مسؤولية إنهاءها على عاتقهم مثلهم مثل أي جهة أخرى.
معهد العالم للدراسات

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage