Views: 177 أصداء سيرة غير ذاتية. – الرقة بوست-Raqqa Post

أصداء سيرة غير ذاتية.

معبد الحسون – الرقة بوست

{{ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عن العالمين..؟}} ــ سورة الحِجْر 70 ــ ((1))
ويالها من ذكرى؛ أستعيدُها اليومَ بأجزاء وتفاصيل عن والدي رحمه الله..
مضى على وفاة والدي أكثرُ من واحدٍ وعشرين عاماً، ومضى على هذه الذكريات وهذه الأقوال قريبٌ من أربعين عاماً، حيث كان أبي يزدري دائماً اهتمامي المتزايد والشديد إلى حد الإدمان المفرط بالسياسة، في مرحلة من مراحل حياتي المبكرة؛ فكان يستخفُّ أيما استخفافٍ بمتابعاتي المتواصلة بالشأن السياسي العام منذ يفاعة شبابي الأول.. كان يقول لي مثلاً:
ـ لا تعذبْ نفسك كثيراً.. كلُّ هذا العذاب في الجري والاهتمام بمستقبل هؤلاء الناس عبث لاطائل من ورائه، فهؤلاء الناس لا مستقبل لهم..
كانت عباراتُه حِجْراً مَحجوراً.. محددة وصارمة، وقاطعة في منظور يأسها، رغم أن والدي لا يمكنُني وصفُه باليائس ولا الفاشل ولا المتشائم، فقد كان دائم النشاط والحيوية والإهتمام بالشأن الثقافي والأدبي.. خاصة اهتمامه المفرط والمبالغ فيه بتاريخ الرقة وآثارها. لذلك كان يضيف:
ـ أنا لا يهمُني شيءٌ في هذه الحياة إلا صَوْنُ آثار الرقة وترميمُها وحفظُها وحمايتُها.. أما هؤلاء الناس الذين تسميهم أنت الشعب أوالجمهور، فإنهم زائلون لا محالة.. سائرون إلى حتفٍ مجهول.. ماضون إلى نهاية لست أدري ماهي..!
كنتُ أسخر بالطبع في نفسي من أقواله، وكنتُ أردد وأنا أبتسم في داخلي: وهل أنت(نوستراداموس)هذه الأمة يا أبي؟
أحياناً كان يضيفُ في أكثر من مناسبة على امتداد السنين:
ـ سيستعيدُ هؤلاء الناس كلَّ حركات الزنج والقرامطة والخوارج.. سيبعَثون الفاطميين والنمييرين والقشيريين والحمدانيين والبويهيين.. سيبعثون الصليبيين من جديد، سيبعثون الأعرابَ والمرتدين، وكلَّ حركات التمرد والتدمير في تاريخنا القديم.. وسيدمرون الحياة والحضارة مرة أخرى.. سيقتلُ بعضُهم بعضاً، وسيُفْظِعون في القتل إلى حدٍ يشيب منه الرأس.. سيجدون أوغاداً ولمامات رثة من البشر يجمعونها حول مشاريع إجرامية، وأكاد ألمح بأمِّ عيني منذ الآن ذلك الخراب الكبير الذي سيلحق بالمدن والقرى.. سيتشارك البعثيون والعلويون منهم مع الشيوعيين والمتدينين، المشايخ أصحاب اللحى، في مخطط واحد لتدمير هذه البلاد.. لا أعلم كيف، لكنني أكاد أرى ذلك رأي العين وألمسه لمس اليد..
ثم فجأة، يحول صيغة الحديث باتجاهي”على أساس أنني أنا من يمثل الناس”، أو على الأقل أنا من يمثلهم رمزياً بحماسي المراهق في تلك الفترة، وكانت التسمية المفضلة لديه اختصاراً للإشارة إلى كل بعثي أو ناصري أو ماركسي أو شيوعي، أو حتى أخواني أو سلفي هي كلمة”ربعك”.. (أي أصدقائك وجماعتك الراكضين وراء العمل السياسي)، فيضيف بلهجة تهكمية واتهامية مؤكدة:
ـ سيهاجم أهل الأرياف المدن ويدمرونها، سيعود الإحتلال والإستعمار مرة أخرى، وسيسلب من هذه البلاد حق الحياة وحق الحرية فوق ماتعانيه اليوم من فَقْد هذا الحق، وسيعود الناس أشباه عبيد.. سيتدخل الإستعمار القديم مرة أخرى، وسيعيد احتلال هذه البلاد.. مجرد وجود “حافظ أسد” بذاته على رأس السلطة في هذا البلد دليلٌ على هذه النهاية الكارثية المنتظرة.. وجود “طلائع البعث” والبدء بترويض هؤلاء الأطفال باكراً على العبودية هو الدليل الأوضح بالنسبة إلي على أنكم تمضون نحو النهاية.. ستُشَرَّدون وتوزعون كقطائع الغنم على قارات الأرض الخمس.. لهذا أقول لك دعك من السياسة.. سيأتي يومٌ على السوريين يصبحون فيه قضية القضايا في هذا العالم.. لا أستطيع أن افسر لك كيف ولماذا.. لا أستطيع أن أشرحَ ما لا يُشْرح، ولا أن أفسرَ مالا يفسرُ، غير أن هذا سيحدث قطعاً..
وحين كنت أقترحُ عليه: لماذا لا تنشر ديوان شعرك الذي ألفته..؟ لماذا لاتطبع مؤلف التاريخ الضخم الذي قضيت عمراً في تأليفه..؟كان يجيب: ولماذا أنشره؟ وهل سيبقى في هذه البلاد من سيقرأ شعراً أو يطالعُ تاريخاً؟هذه البلاد رايحة.. رايحة.. افهمها منذ الآن..!
كان البون شاسعاً والهوة سحيقة فيما بيننا، إذ بينما كنتُ أفتقرُ إلى الإيمان بنفسي، وأمتلىءُ بذلك الإيمان الوفير الكبير بالناس، بالجمهور، بالشعب، بالجموع، بكلية العالم والكون والبشرية.. كان أبي يقف في الموقع النقيض مني تماماً: كان شديدُ الإيمان بنفسه، مكتفياً بذاته إلى حدِّ أنه لو نُقِلَ من كوكب الأرض ووضِعَ في كوكبٍ آخر، خالٍ من السكان، لعاش وحيداً سعيداً.. ولظلَّ مبتهجاً مسروراً في وحدته الإستعلائية تلك، وبفرح لا يوصف لولا التنغيصة الدائمة من أنه قد يفارق آثار الرقة التي اعتاد أن يظل يومياً ساعاتٍ طوالاً يتأملُها بشغفِ غير المُصَدِّق.. كان أبي فقيراً جداً إلى الإيمان بالناس إلى درجة لايمكن وصفُها ولا تعليلُها، إذ ليس لانعدام ثقته بالمجتمع حدٌّ ولا مطلع.. وطالما سمعته يردد:
ـ القتل والخراب الذي شهدته الأمة في القرن الرابع الهجري سوف يعود في دورة طبيعية.. في ذلك القرن انتشر الشيعة وعمّوا كافة أطراف البلاد والأمة، وفي هذا الزمان سوف يعودون من جديد.. انظرْ إلى هذه المدينة الهادئة البسيطة، مدينتنا الرقة، واحكمْ على الأمور بعد أن ينتشر التشيع فيها.. (في ذلك الوقت لم يكن معظم أهل المدينة البسطاء قد سمعوا بالشيعة أصلاً، وليس لديهم ربما أدنى فكرة عن التسمية)..ثم يضيف:
ـ سيأتي عليكم يوم تحلمون فيه بالسفر.. مجرد السفر والتنقل، من الرقة إلى حلب.. ومن الرقة إلى دمشق.. ومن الرقة إلى دير الزور.. سيقسمون هذه البلاد إلى دول، كل قطعة صغيرة بحجم قرية ستصبح كما لو أنها دولة مستقلة.. وسيهجرها أهلُها، وسيجلبون سكاناً جدداً ليملأوها بالسكان..
رفض والدي مشاركتي السابقة في الثورة فترة الثمانينات، رغم كل ما كان يكنه من حنق وغيظ لنظام الأسد، بل ولقد اعتبر أن العمل السياسي في هذه البلاد مضيعة للوقت، وفعل لاطائل من ورائه ولاجدوى.. كان يردد على مسامعي في خلوتنا الخاصة ـ كما المتنبىء الذاهل أمام بلورته السحرية ـ كلمات من مثل:
ـ هذه البلاد يابني فات أوان إنقاذها وتدارك مصالحها، وهي مقبلة على خراب مؤكد، وضياع كبير.. كل هذا الفساد الذي تراه يتراكم يوماً بعد يوم، وهو لا ينْحِتُ عظام المجتمع فحسب، ويفخخُها تمهيداً لنسفها ذات يوم، وإنما هو يعمل على صياغة الناس صياغة جديدة.. إنه يزرع فيهم قيماً وأخلاقاً بعد أن يستأصل كل ما كانوا قد تربوا عليه ونشأوا.. إن حافظ الأسد وسلطة البعث ليس من مهمتها فقط أن تبيع البلاد لأعدائها بالتقسيط، بل الأخطر أنها تسعى لأن تغيرَ الناس تغييراً جذرياً، أي أن تبيع الناس أيضاً.. ويوماً ما ستجد أن الناس قد ذهبوا جميعاً، أو بالإحرى قد تحولوا تحولاً كبيراً.. ستجد في هذه الرقة “شيعة”، (وقتها لم يكن في طول المحافظة وعرضها شيعي واحد).. ستجد ملحدين ماركسيين يصطفون إلى جانب سلفيين، وستجد ثواراً تقدميين يقفون إلى جانب الطغاة، ستشك بكل هذا الوجود وكل هذه الدعاوي.. ربما نصبح في النهاية غنيمة لإسرائيل، ويهود الأزمنة القادمة، وربما نصبح غنيمة لغيرها.. سنزحف على ركبنا ذات يوم بمذلة نحو إسرائيل، وسنطلب منها المساعدة، ونضرع إلى اليهود أن يقفوا إلى جانبنا، وسيرفضون.. وسنذهب إلى المستعمرين القدامى: الفرنسيين.. سنرجوهم ونحن نزحف على أقدامنا، أنقذونا مما نحن فيه، لقد كان جلاؤكم خطيئة تاريخية كبرى، ارجعوا مرة أخرى واستعمروا بلادنا فقط من أجل أن نخلص مما نحن فيه.. خذونا كسلعة تحتاجونها مقابل معجزة إنقاذنا مما نحن فيه.. فقط انتشلونا من هوة التردي والقتل والجوع والتشرد في أصقاع الأرض.. وسيرفضون أيضاً..
كنت أضحك في سري من نبوءات أبي بالطبع، وأحياناً كنت أشعر بالضيق، وينتابني شعور بأن هذا العجوز قد جُنَّ منذ زمن طويل، حيث أستمع إلى كلماته وهو يردد:
ـ سيتسابق الشرفاء الكاذبون والخونة الصادقون فيما بينهم: أيهم سيدمر أكثر، وأيهم سيخون قبل، والكل بالطبع يمضي وهو يحمل رايةً للشرف والوطنية أكبر من قامته وقامة من حوله.. كنت أرد عليه أحياناً بغيظ، وأحاول أن أشرح له ماهي الحتمية التاريخية التي ستوصل الناس إلى اشتراكية حتمية ومحققة، وأكثر عدالة وإنسانية.. وكيف سنبني فردوسنا الأرضي ذات يوم في هذه البلاد بفضل الجماهير الثائرة الصادقة المؤمنة بقضيتها.. فكم حاولت أن أقنعه وأشرحَ له أننا اليوم نعيش في عصر الجماهير، لاعصور الطغاة والعبودية، فكان يصغي إليّ بانتباه، كما يصغي طبيب نفسي إلى مريض عقلي ميؤوس من شفائه، ويهزُّ رأسه بحزن قبل أن يقول:
ـ هذا إن بقي جماهير.. هذا إن لم تعش يوماً لترى الناس وقد نهبوا المدن والقرى، وسرقوا المتاحف ودوائر الدولة، وأصبح القتل عادة يومية.. كم أتمنى لو يعاجلني الموتُ قبل أن يمتد بي العمر، وأصير إلى تلك الأيام القادمة التي أراها منذ الآن..؟
ــ يتبع ــ


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage