الأستانة: لزومُ مالايَلْزَمُ.. ولا يُلْزِم
الرقة بوست ـ معبد الحسون
يستحِرُّ جدالٌ مكثف ومتابِع ومهتم جداً بما يتم التحضير له في مؤتمر الأستانة المزمع عقده خلال هذا الشهر، والذي يُتوقَع أن يكون قرارُ وقف إطلاق النار على كامل الأرض السورية(ماعدا التي تحتلها داعش)، هو أولى مخرجاته التي سيخرج بها. ويبادر كثيرون المؤتمرَ والمعترضين عليه بسؤال وجيه، ويحمل في تركيبه وطريقة عرضه قدراً من المعقولية الشكلانية: (أيها المعترضون والمعارضون حضور المؤتمر.. هل لديكم بدائل أو خيارات أفضل؟ وهل تملكون، أو نملك كسوريين،حلولاً للخلاص السوري والبدء بإنهاء معاناة الناس التي لم تعد تحتَمِل المزيد من جرعات الألم، غير أن نذهب وأن نبدأ أولى خطوات التفاوض أو أن نشرع في حلٍ ما، حلٍ يحمل ويحتمل قابلية كسر هذا الخط المتصاعد للدمار والجنون المطبق الذي استهدف الجميع بلا شفقة؟)
لن أدافع عن السؤال، ولن أقف في صف المجابِهِين بالجواب والمعترضين على المؤتمر، وجملة ما أراه أن المؤتمر مبدئياً يلتئم شملُهُ ليتحاور فيه معارضة المعارضة، أو معارضة حميميم والطيف الواسع المشابه لها من جهة، وبعض رموز نظام الأسد ممثلين بروسيا، والأخوان المسلمون من جهة أخرى ممثلين بتركيا، كما بات يتكشف عن محددات هي في حكم الأواليات التي تجعلنا نحكم له أوعليه، محددات يمكن وصفُها وغير ممكن إصدارُ حكمٍ مبكرٍ، متفائل أو متشائم،عليها:
أولى هذه المحددات التي يجب أن نُقِرَّها هو أن نظام الأسد الذي يذهب اليوم إلى الأستانة ليس هو النظام الذي وقف الشعب يتحداه ويتصدى له ويدعوه إلى الرحيل قبل ست سنوات، بل إنّ ما تبقى منه، أو جثمانه ورميمَ عظامه هو من سوف يجلس على طاولة المفاوضات ويتصدرها.. فنصف طاولة المفاوضين إذن سوف يحتلُها شبح النظام برمزيته، لا بوجوده الحي والواقعي، ذلك النظام الذي سلَّم كل مفاتيح قدراته وعافيته لقوى خارجية، ولم يعد يملك قراره على السلطة والدولة السورية لا سياسياً ولا عسكرياً ولا اقتصادياً.
كذلك فإن الذاهبين إلى المفاوضات تحت مسمى(المعارضة)، ليسوا هم السوريين الذين خرجوا بالملايين قبل ست سنوات، وقدموا حتى الآن على مذبح المواجهة مع النظام والقوى الإحتلالية التي أوقدت نار الحرب ضد الشعب السوري الثائر، دعماً ومؤازرة للأسد، قريباً من مليون شهيد، ومثله من المشوهين والمعوقين والمفقودين، وأكثر من عشرة أضعاف هذا العدد من اللاجئين والمهجرين، حتى أفضى مشهد هذه المواجهة مع النظام إلى مايشبه التدمير التام لبلدهم بالكامل. كما أن موهبة تزيين المؤتمرات ووفود المفاوضات ببعض أسماء المعارضة التاريخية، ذات البريق و”الكارزما” باتت مملة وسخيفة، ولم تعد تُقابَل بحفاوة، لا دولية ولا محلية، فالذاهبون إلى الأستانة ،وقد فقد السوريون مفتاح بيتهم الضائع، لم يجدوا حلاً لفتح ما استغلق أكثر من البحث لدى مفاتيح الجيران واستعارتها، عسى أن تجد الصدفة العمياء، أو صدفة الصدفة، خلاصَها وفتحَ تلك المغاليق المستحكمة منها عبر اختراق ثغرة في باطن الممكنات وظاهر غير الممكنات.
إذن لا النظام الذاهب إلى الأستانة في وضعية وأهلية تجعله وترخص له إمكانية المفاوضة، وقبل كل ذلك لا يجب أن يفوتنا المسلك الجنوني الطائش الذي يدفع بالنظام لعرض الوطن كله في مزاد علني بالظرف المختوم وبالسرعة المستعجلة، لكل من يدفع مقابل بقائه ولأول من يتقدم.. أما واقع المعارضة كما تسمى في التداول العام، والتي يذهب أمراء حربها مكشوفين من أي غطاء سياسي، وعراة من كل حاضنة اجتماعية أوثورية، فإنها تفتقر إلى كل شرط من شروط الأهلية التي تخولُها أن تفاوض جهة أو طرفاً ذا معنى، الأمر الذي يجعل تساؤلنا عن جدوى نجاح المؤتمر أو فشله، ومغزى القول بأن نتشاءم أو نتفاءل هو تساؤل لامعنى له.. وإذا أضفنا إلى كل ماسبق بأن وقف إطلاق النار المأمول على كامل الأرض السورية سوف يستثني نصف خارطة الوطن التي تحتلها داعش وجبهة فتح الشام والفصائل السائرة في ركابهما، وأن المؤتمر هو شأن روسي بامتياز، وأجندته وخطته الأولى المتصورة في الأذهان نابعة من مزاج روسي بالدرجة الأولى والأخيرة، وأن النظام السوري والإيرانيين لم يسعوا لنجاحه أكثر من سعيهم لإفشاله، وبجرعات عالية من الأمنيات المُضمرة بأن يحبِطَ عملُ المؤتمر والمؤتمرين فيه؛ كل هذا سوف يجعلنا نسجل بأن حجم التخالف المتبادل بين حلفاء النظام أنفسهم، الروس والإيرانيين، لم يعدْ حدثاً مسكوتاً عنه، ناهيك عن أن يُفَسَّرَ تفسيراَ سطحياً بأنه عارضٌ محتمل وطبيعي، وقابل للتجاوز مثل كل ما سبقه من تناقضات.. بل بوسعي أن أسجل ملاحظة أكثر جرأة من حيث المدلول، وهي أن الروس لايذهبون إلى الأستانة من أجل الجلوس مع “المعارضة”، قدرما يذهبون من أجل ترسيم حدود ما تبقى من دورٍ لنظام الأسد وللإيرانيين وميليشياتهم، ولتحجيم هذا الدور وتقزيمه، والسعي لفلترة نفوذه المنكمش أصلاً تمهيداً للتصفية النهائية معه في المستقبل.
الروس كمن يلعب القمار مع طرف لا يملك مالاً يجعله يربح أو يخسر، وذلك الطرف هو مايسمونه:”المعارضة والنظام”، وهم أذكى من أن يجلسوا على طاولة لا تضم سوى أمراء الحرب السوريين الذين يسمون “المعارضة العسكرية”، والذين لا يتقاطعون في قليل أو كثير مع طبيعة المشكلة التي يذهبون إلى الأستانة بغية مناقشتها أو حلها، ولم يعد لهم من مهام أو وظائف سوى تبادل النزاعات والقتال من أجل الظفر ببعض الأمكنة والقرى وتحرير الأرض(المحررة عشرات المرات) من بعضهم وفيما بينهم، هذا إن لم يكونوا، أو يكون معظمهم جزءاً من طبيعة المشكلة، وطرفاً بنيوياً أصيلاً في تركيبتها. وإذا كانت القاعدة الذهبية في السياسات على مستوى الشرق الأوسط تؤكد بأن “لا مشكلة في الشرق الأوسط ليس وراءها الإسرائيليون والأمريكان”، فإن نظيرتها من القواعد الذهبية حُكماً يجب أن تقرر بأن “لاحلولَ أيضاً لأيٍ من مشاكل هذا الشرق الأوسط، وسوريا باتت تحتل اليوم هرم مشاكله، في غيابهما”.. هذا الغياب الأمريكي المشبوه المقاصد عن الأستانة، يجعلنا نؤكد، وبالواقعية المتحللة من التشاؤم والتفاؤل، أن مؤتمراً لقضية بحجم القضية السورية ليس سقفه الجامع مقررات جنيف، والأطراف الدولية المتوافقة أو الأمم المتحدة، هو مؤتمرٌ، ليس فوق الشبهات ولا تحتها، وإنما هو الشبهات عينُها. وأن لزومَ ما يُدونُه الروس في مدرجات الأهداف التي يرمون إليها، قد لا تَلْزَم ولا تُلْزِمُ أحداً خارج الملعب الروسي.
رئيس التحرير