Views: 113 تأملات في كتاب إدارة التوحش(4) – الرقة بوست-Raqqa Post

تأملات في كتاب إدارة التوحش(4)

معبد الحسون

يخامرنا الشك بأن الحضارة الإنسانية لاتعاني أساساً في جذر مشاكلها الجوهرية من نقص في الثقافة والخبرات أو نقص في المعرفة والعلم، وإنما تعاني من طبيعة التنظيم العام والشامل الذي تتحكم به”أقلية”مُتَحَكِّمة ورادعة ضد”أكثرية” لا تستجيب للانضباط، وهي تسعى إلى الاستحواذ على أكبر قَدْرٍ ممكن يحقق لها تفريغ غرائزها مقابل ـ وبالضد من ـ تنظيمها وتوزيعها في شيء من المساواة النسبية.

إن مجمل الصعوبات التي تعاني منها الحضارة الحديثة ليست صعوبة ثقافية أو عسر اقتصادي أو سوء أفهام متبادل، قدر ماهي صعوبات في القدرة على التسوية  والتفاهم والتحكم بين الأطراف(الفاعلة)والأطراف(المستجيبة)، هذه العلاقة التي تسعى دوماً إلى تأطير مؤسسات الحضارة وتنظيم العالم، ثم إعادة إنتاجه من جديد من وجهة نظر تلك الأقلية التي تتيح للأكثرية الساحقة من البشر أن تنظر إلى المستقبل نظرة مليئة بمشاعر الحرمان والفقد الجسدي والروحي، الأمر الذي يعطي انطباعاً عاماً بأن صفة التذمر العام والسخط على الطبيعة العامة المتحكمة بالأشياء والمسيرة لها سوف تبقى لآماد بعيدة يصعب تحديد نهاياتها.

تقوم الحضارة اليوم على مبادىء”الإكراه”،(ولقد كانت كذلك في ماضي البشرية)وليس على مبادىء المصالح المتبادلة والمتنازع عليها بين الشعوب والدول، وأسجل كمثال على ذلك أنه لو قُيض للبشرية اليوم أن تحظى بمزيد من المنافع المادية التي بين يديها، حتى لو قدر لهذه الزيادة أن تكون بنسبة خمسين أو مائة ضعف مابين أيدي البشر اليوم، ربما لن نجد إلا تغييراً طفيفاً، لا جوهرياً يضيف شيئاً مُهِمّاً لمانحن عليه، وإلا فروقات بسيطة قد تطرأ على حياة البشر اليوم، وهذا معنى ماذهبت إليه من أن جوهر الحضارة إنما يقوم على الإكراه وليس على تبادل المنافع وتوزيع السعادة بين الجميع..

هذه الأقلية القابضة على كل شيء يسميها البعض بالرأسمالية العالمية، ويسميها آخرون نادي الأثرياء في العالم، ويسميها البعض الآخر بمسميات متعددة وكثيرة، وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن التسمية فإن هذه الأقلية التي تسعى إلى التحكم بواقع الحياة أجمع عن طريق الإكراه، وحين تستعير ماضي البشرية الديني وتجهد لإعادة صياغته وصناعته من جديد، إنما تجهد لكي ترسخ أوهاماً عتيقة مضت عليها عهودٌ غابرة، وتحاول السيطرة على عقول الناس والتحكم بالأنفس والغرائز من جديد عبر تلك السيطرة..

لنتخيل قوة المال العالمي، متحالفاً مع المحافظين الجدد في أمريكا خاصة وفي العالم المسيحي عامة،(كبوابة سياسية ذات خطاب شامل تطل منه على العالم أجمع) وهي تعِظُنا موعظة ناصحة وممهدة لمستقبل هذا العالم.. لنتخيل تلك القوة المهيمنة والقابضة على مصائر البشرية تقول:((هناك لوثة جماعية، وجنون نفسي جماعي يجتاح البشرية بأسرها، يمكننا أن نسميه”التطلع إلى المستقبل”.. بل الأصح أن نسميه”الخوف من المستقبل”.. إن عدم اليقين ضارب في كل شيء في مملكتنا الإنسانية، حتى ليصح القول بأننا معشر البشر، نكاد نحسد الحيوانات بسبب بُرْءِها من هذه الحمى التي لا نجد منها فكاكاً.. أليس في صناعة الشيطان عِتقٌ جديد من هذا الأسر المضني؟ أليس في(خروجه الجديد) برودة يقين تحل على الأنفس التي تنبعث منها أبخرة الشكوك على الدوام..؟ تخيلوا العالم اليوم بدون داعش وأشباهها،(كم سيكون الواقع مقلقاً لكثيرين) وبدون السيد أبي بكر ناجي وفلاسفة الشر، وبلا تلك الإدارة المنشودة للتوحش.. ثم أجيبوا على سؤال واحد، سؤال مصلت كالسيف فوق رقابكم: إلى متى نظل ننتظر النهايات التي لا تأتي أبداً..؟ إلى متى نظل نعيش خوفنا من ذلك المستقبل..؟ إن الضمائر التي تصلبت تحتاج إلى (مسيحها الموعود المنتظر).. ومسيحها المنتظر لن يظهر إلا إذا ظهر الشيطان حقيقة وابتدأ بالكُرازة للشر، وهي تحتاج أيضاً إلى براءتها الأولى وانعتاقها المطلق، ولهذا.. لهذا وحده نحن بحاجة إلى الشيطان..! إلى شيطان ما..! اصبروا قليلاً وسوف ترون أن الشيطان ليس كائناً قائماً مكانُه ومكانته في محض الشر كما تفهمونه أنتم، وفي انعتاق الظلام اللانهائي كما تخيلتم أو كما خيلوه لكم وقولبوه من خلال المفاهيم المسبقة والسرديات الدينية العتيقة. اصبروا وسوف ترون أن الأمر يحتاج إلى اكتشاف جديد، فالأمر مثير جداً(وأنتم تعشقون الإثارات)، والأمر مُسَلٍ ومبهجٌ ومتنوع إلى حدود تفوق الوصف.. الثلج الذي ترونه في لوحات المعارض ليس ثلجاً، ولا تسري برودته في الجسد، وحرائق النار التي تشاهدونها في الأفلام تبقى مجرد تخيلات وتصاوير.. عليكم أن تروا شيئاً حياً نابضاً بالفكرة وحرارة المشاهد.. حياً ومُجادلاً وذا وجهة نظر وتصور يَجْبَهُ العقل وأحياناً يحتله ويتربع على عرشه(أو حطامه إذا شئتم).. ذلك هو الذكاء الإنساني الصرف في التعريف الأخير.. يجب أن تصبروا قليلاً ولسوف يتكشف لكم أن الشيطان ليس شراً مجانياً هائماً في هذا الوجود بلا معنى، ولا هو سرد خرافات تعبت الأديان مجتمعة لكي تبلغكم صورتها ولو في حدودها الرمزية والتخيلية.. دعكم من الرموز، ودعكم من الخيالات والأحلام والأوهام، بل ومن جميع النصوص المحفوظة في بطون التاريخ وفي مخطوطاته.. الشيطان حقيقة. حقيقة مؤكدة. كائن مثلكم ومثلنا.. يأكل ويشرب وينام ويتغوط ويقتل لأسباب واضحة ومتسقة المعاني، وأحياناً يبتسم مثلكم، ويذرف الدموع على ضحاياه مثلكم(فهو ليس بلا قلب كما أفهموكم ولقنوكم عبر سبعة آلاف عام مضت)، وهو صاحب رسالة؛ واضحة، جلية لا لبس فيها ولا نفاق..

نعم.. قد ينطوي خطابه أحياناً على بعض الغرابة والتفاهة والغباء،(سامحوه في هذه النقطة كما سامحتم أسلافاً له مضوا في التاريخ)، ولكن يجب أن لا نتنكر لميزة الصراحة وقوة التحدي التي هي ميزته الأساسية التي يفتقر إليها سواه. لا دبلوماسيات على شفتيه، ولا يعرف المجاملات والكلمات المبطنة التي تحمل أوجهاً وتأويلات وتفسيرات.. ولاعبارات مخملية معلبة وقابلة للتبادل والتدوير في الأوساط الرسمية.. الشيطان أرفع شأناً من ذلك الانحطاط اللغوي الذي ننحدر فيه، فهو لايشجب ولا يشعر بالقلق ولا يستنكر، ولا يستحسن ويشجع، ولا يبدي تفهماً..لا يرى أن هذا الشأن أو ذاك خطراً على السلم العالمي.. ليس لديه من هذه البضاعة المعهودة التي تعرفونها شيئٌ البتة. صدقونا إنه ليس شيطاناً كما تتوهمون، بل هو قضية.. قضية فذلكتُها ومفادُها: إما هو أو المسيح.. وبعبارة أوضح: إما”هو” أو “نحن”..

دعكم من الآداب والأشعار التي صورته لكي تُلهم وتسترضي قراءً متبطرين، دعكم من شيطان”إيفان كارامازوف”، ومن شيطان”فاوست”، فما أولئك بشياطين، بل هم خيال أدبي ملتهب، واستعارات كنائية تغذي المُخيلة.. أو لنقل إنهم مجرد شياطين هَبلة وسخيفة نُسجت على الورق، لا تقتل ولا تغوي ولا تبيد الناس جماعات، ولا تتكلم باسم الله علانية وفي منتهى القوة وتحلل الضمير.. الشيطان حقيقة لها سحرٌ أخاذ. حقيقة جاثمة منذ الأزل وإن كنتم لا ترونها ولا تلاحظونها بسبب انشغالكم بروتين الحياة التقليدية ومشقاتها التي لا تنتهي، وها نحن إنما سنخطو الخطوة الأخيرة في سُلم التاريخ، وسنعلن بعدها نهاية التاريخ.، فلا تاريخ بعد ظهور الشيطان وخروجه.. لأن خروجه يعني بالمقابل خروج المسيح الذي وَعَدَنا بالعودة.. وهل هناك أجلى مثالاً وأسمى تطلعاً من عودة الرب ابن الإله، والذي سيعود إنساناً وابن انسان..؟ بل، أكثر من ذلك، سنهمس في آذانكم بصريح سِرِنْا: نحن إنما كنا نمهد لخروج ذلك الشيطان منذ سبعة عشر قرناً من أجل عودة المسيح، وبتحديد أدق منذ أن سطت روما على تراث المسيح وخطفت منه إنجيله في مجمع نيقيا عام 325 م.. ولهذا لن يمنعنا شيء من تحطيم أغلاله ومساعدته على التحرر والخروج، وفك إساره وإطلاقه ليلوب في هذه الدنيا الواسعة. الأمر إذن أكبر من أن نقبله أو نرفضه، وفوق رأينا وحاجة روحنا هنالك إرادة الله النافذة في كل شيء في هذا العالم. لذلك نقول، وكلنا إصرار وتصميم ووضوح رؤيا من الغاية النبيلة التي نذرنا النفس لها: لا تحتقروا داعش، ولا تشمئزوا من أفعالها. ولا يهولنكم أنها نار تحرق وتكتوي بها أمم وشعوب، فمن النار انبثقت الحضارة، ولولاها لكنتم اليوم ما تزالون همجاً تأكلون لحوم بعضكم بعضاً وهي نيئة كما كان يفعل أجدادكم وأسلافكم البدائيون. ألا ترون معنا أن غياب الشيطان طيلة قرون أو استقالته من هذا الدور قد يضر بقضيتنا وقضيتكم، وسوف يعيق التطور أعواماً..؟ ألا يكفي أنه ملأ هذا الوجود المترع باللامعنى وضوحاً واستنارة؟.. لقد أعطى الموت صبغة كانت مغيبة تحت ركام عناء الحياة ومشاكلها وأكاذيبها التي لا تنتهي وبث فيه معناه. كما أنه منح الحياة مضموناً جديداً. فانظروا جيداً واحكموا على الأمر بأنفسكم: أليست هذه فلسفة جديدة نَحَّتْ كل ماسبقها من الفلسفات وأطاحت بها، وأسقطت كل منطق قديم للحياة وأهزلته وجعلت منه أضحوكة؟

سنسمح لكم بعد ظهوره بأقصى الحريات، وسنسمح دائماً بالشجب والاعتراضات والاحتجاجات؛ بل وبالثورات كما يحلو لكم وتشتهون.. ولكن مهما انتحيتم جانباً عنا ومهما ابتعدتم لسوف تعودون الينا في النهاية طائعين، سوف تأتون جاثين على ركبكم ضارعين وأنتم تبكون:(لقد استبان السر وانكشف الأمر.. فتفضلوا علينا متكرمين وامنحونا “سركم” قبل أن يمنحنا “سره”هو، وسنقبل بغموضكم ونباركه قبل أن يفترسنا..

لا تظنوا بأن هنالك خلافات كثيرة بينكم وبين الشيطان، لا تظنوا بأن الفارق شاسع، والبون عظيم، والطبائع جد مختلفة.. لا تحسبوا بأنكم قديسون وهو مجرد شيطان بائس ومسكين، متحلل بطبعه من الضمير ومتجرد في أصل خلقته من الفضيلة.. لا تظنوا بأنه يحثكم على الفواحش والشهوات وأنتم أرفع مسلكاً لولم يكن موجوداً ودون إغراءاته تلك، وأنه يدعوكم إلى القتل والكذب والسرقة والفساد، وأنتم لولاه ما كنتم كذلك ولا تورطتم بشيء من ذلك. لا تتوهموا أنكم أقل غلظة وجهامة وغباءً وفساداً منه، جملة الأمر أننا، نحن معشر البشر، اختلفنا معه في نقطتين فقط في وجهات النظر،(لا نعتقد أن هنالك خلافاً كبيراً بيننا نحن معشر الآدميين وبينه في وجهات النظر سوى هاتين النقطتين).. الأولى أننا أعطينا مالقيصر لقيصر، وما لله لله. بل وآمنا بذلك وحرصنا على أن نلقى الله بهذه النية وهذا الاعتقاد. أما هو ـ لعنه الله ـ فقد فعل العكس تماماً، وأرادنا أن نعتقد وأن نفعل مثل فعله؛ فقد قرر أن الحق والصواب في أننا، أو هذا ما يجب علينا حقاً، أن نعطي ما لقيصر لله، وأن نعطي ما لله لقيصر.. ذلك مكمن الخلاف وسبب تباعد وجهات النظر بيننا وبينه.. (أليست هذه خلاصة مايريده السيد أبو بكر ناجي؟) أما نقطة الخلاف الثانية بيننا وبينه فهي أنه اعتقد بأن أبانا آدم خرج من الجنة مذؤوماً مهزوماً مدحوراً أمامه وأمام الله، بينما نعتقد نحن بأن أبانا آدم قد انتصر وحقق إنسانيته لأول مرة بهذه الهزيمة، بل إنه لم ينتصر بتاتاً في حياته كلها، ولم يكتسب معنى إنسانيته ويختزنه إلى الأبد إلا بتلك الهزيمة المزعومة.. ذاك هو، كما نحسب، خطا الخلاف المتوازيان بيننا وبينه دائماً، وهو خلاف وجهات نظر ولن تفسد القضية بيننا وبينه من أساسها.. فلا ترددوا كالبلهاء عبارات مثل: لقد اكتشفنا الحرية وظفرنا بها، وهذا يكفينا.. ألا فاعلموا أن حريتكم تلك هي هبة منا ومنحة كرم تفضلنا بها عليكم. يكفيكم أن تعلموا أن “ثمانية رجال” فقط من بيننا.. من أولئك القابضين عليكم الذين تسمونهم أغنى أغنياء العالم، يمتلكون رأسمالاً يوازي ما يمتلكه 3.6 مليار من البشر.. أي أكثر من نصف البشرية، فماذا لو قررنا أن نحجب عنكم المال والطعام والشراب؟ وبالتالي تلك الحرية المزعومة التي تتشدقون بها..؟ وأن نعيدكم عبيداً أرقاء كما كنتم في الماضي..؟ فأيُّ أناسٍ أحرارٍ أنتم..؟)

ـ يتبع ـ

 

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage