تل أبيض، تركيا- انتهكت الميليشيا الكردية التي زوّدت حملة الولايات المتحدة العسكرية الجوية ضد الدولة الإسلامية بالقوات البرية، بصورة ممنهجة؛ حقوق الإنسان في المنطقة التي تتحكم بها في الشمال السوري، مسببة تهجير عشرات الآلاف من العرب، وهروبٍ أكثر هولًا للأكراد أيضًا من المنطقة.

يُظهر تحقيقٌ استمرّ ستة أشهر أنّ الميليشيا الواقعة -بحسب التقارير- تحت التأثير القوي لإيران ونظام الأسد، قد طردت ابتداءً من العام 2013، السكان العرب من منازلهم تحت تهديد السلاح، ومن ثمّ دمّرت منازلهم وقراهم أو أحرقتها أو أزالتها.

قابلت مجلة «ذا نايشن The Nation» حوالى ثمانين لاجئًا عربيًّا وكرديًّا سوريًّا في المنطقة، إضافة إلى مسؤولين من الميليشيا، وأعضاء سابقين فيها، ومسؤولين حكوميين سوريين سابقين، وناشطين سياسيين ومسؤولين في كردستان العراق.

زادت وتيرة عمليات الطرد دراماتيكيًّا، بعد بدء الولايات المتحدة عملياتها المشتركة ضد الدولة الإسلامية في سورية في أواسط عام 2015، وذلك عندما هدّدت الميليشيا الكردية العرب بالضربات الجوية في حال عدم مغادرتهم قراهم. في الوقت الذي انخفضت فيه وتيرة الضربات الجوية في عام 2016، استمرت عمليات الطرد حتى في أثناء مهاجمة الميليشيا بالهجوم خصومها السياسيين، وسجنهم وتعذيبهم وطردهم.

لقد هرب 300.000 كردي سوري على الأقل من المنطقة إلى كردستان العراق المجاورة، وذلك وفقًا لمسؤولين هناك، كما هرب نحو 200.000 إلى تركيا بدلًا من الخضوع للتجنيد الإجباري، والقمع السياسي لمجموعة تصر على الحكم، كما في دولة الحزب الواحد، وذلك وفقًا لمراصد حقوق الإنسان الكردية في تركيا. كما يقول مسؤولون في كردستان العراق إنّه لو فتحت الميليشيا الكردية السورية الحدود، لهرب ما لا يقل عن نصف السكان الأكراد الواقعين تحت سيطرتها.

إنّ الميليشيا التي تدعو نفسها باسم «وحدات الحماية الشعبية» -YPG اختصارًا- هي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، أو ال بي. كي. كي. -PKK اختصارًا- الذي كان قد خاض حرب عصابات ثائرة ومتقطعة ضد الدولة التركية منذ عام 2014، حربًا عادت للاشتعال في أواسط العام 2015، وهي مستمرة إلى يومنا هذا.

أصرّت إدارة أوباما على الفصل بين حزب العمال الكردستاني، المصنّف بأنه جماعة إرهابية من جانب الولايات المتحدة، ووحدات الحماية الشعبية، وقد سمح ذلك الموقف لواشنطن بالتحايل على القوانين التي تمنع التعامل مع مجموعات كتلك، وقد وصف عدد من الشهود، ومن ضمنهم أربعة عناصر منشقّون عن حزب العمال الكردستاني -قابلناهم من أجل هذه المقالة- موقف الولايات المتحدة ذلك، بأنه ضرب من الخيال.

هل وحدات الحماية الشعبية منفصلة عن حزب العمال الكردستاني؟ كان ذلك سؤال The Nation لـ«مهار»، وهو منشق عن حزب العمال الكردستاني، التقيناه خارج سورية، وأجاب قائلًا: «ما الفرق بينهما؟»، وقال الأشخاص الأربعة المنشقون إنّ صناعة السياسة الخاصة بالمنطقة السورية التي يدعوها الأكراد «روجافا» أو غرب كردستان، تجري في قنديل في العراق، مقرّ حزب العمال الكردستاني الرئيسي.

تنكر وحدات الحماية الشعبية ممارستها أيّ اعتداءات، حيث قال سيهانوك ديبو الناطق باسم حزب الاتحاد الديمقراطي (YPD)، الجناح السياسي لوحدات الحماية الشعبية، وكبير مستشاريه: «لم تحصل أيّ عمليات طرد في الماضي، ولن تحصل في المستقبل»، وأضاف أنّ التحالف بين وحدات الحماية الشعبية والتحالف الدولي (الذي تقوده الولايات المتحدة) يُعدّ بمنزلة «سبب آخر يمنع حدوث انتهاكات كتلك».

لا تقتصر قصة وحدات الحماية الشعبية على كونها حزب العمال الكردستاني بتسمية مختلفة، بل إنّها تتضمن لاعبين كبارًا آخرين لا تفضل حكومة الولايات المتحدة الحديث عنهم، وهم أساسًا الحرس الثوري الإيراني ونظام الرئيس بشار الأسد. كما إنّها قصة سلطة حاكمة مارست الاعتقال والتعذيب والنفي بحقّ قادة خصومها السياسيين، وقمع الإعلام المستقل، وتهديد المراسلين الصحفيين بالقتل، إضافة إلى التجنيد الإجباري بالتهديد، كما نفّذت عمليات واسعة ومنهجية لطرد السكان، وحاولت «تكريد» القرى العربية التقليدية. وهي أيضًا قصة منطقة على نزاع مع جارتيها: تركيا وكردستان العراق، اللتين أغلقتا إمكان العبور إلى روجافا أمام الجميع، بمن فيهم تقريبًا المراسلون الأجانب جميعهم (سنتحدث عن بعض تلك الانتهاكات في الجزء الثاني من هذه السلسلة).

وعندما طُلب من أولئك المسؤولين في روجافا الإجابة عن الادعاءات ضدهم، حضّروا أجوبة لا تصمد أمام التدقيق، وقال «ديبو» إن هنالك استثناءً وحيدًا للإنكار الشامل لتدمير وحدات الحماية الشعبية منازل العرب، وهو أنّه في بعض الأحيان، تكون القرى عالقة على خط التماس عندما تسيطر وحدات الحماية الشعبية عليها من الدولة الإسلامية، حيث قال: «لذا، كيف في استطاعتك تحرير منطقة من الدولة الإسلامية في العراق والشام من دون أن تلحق الضرر ببيوتها؟».

لكن عند تفحّص مجلة The Nation حالًا تلو الأخرى، تبيّن أنّ عمليات التدمير وطرد السكان من القرى كانت تجري بعد سيطرة الوحدات عليها من الدولة الإسلامية، ومن دون قتال.

وعلى الرغم من التوثيق الموسّع لعمليات الطرد من جانب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مجموعة المراقبة والرصد المُعارِضة المحترمة، لم تُجرِ وحدات الحماية الشعبية أيّ تحقيق داخلي، وعندما سئل ديبو عن قائمة الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي تحتوي على 26 قرية مدمرة كليًّا، و40 مدمرة جزئيًّا و48 قرية إضافية جرى إخلاؤها من سكانها كلهم في الحسكة لوحدها، قال: إنّ قوات الحماية الشعبية ليست مفوّضة بالتحري عن انتهاكات كتلك، وأضاف: «أؤكد، مرة أخرى، أنّ أشياء كتلك لم تحصل البتّة».

كما قللت حكومة الولايات المتحدة من أهمية تلك الخروقات، وحتى عندما أصدرت منظمة العفو الدولية، والشبكة السورية لحقوق الإنسان تقارير ضخمة في وقت متأخر من خريف عام 2015، لم تكرس وزارة الخارجية الأميركية إلّا سطرًا واحدًا لعمليات طرد السكان في تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان في وقت مبكر من العام الماضي.

وفيما إذا كان ديبو صادقًا، فإنّ حكومة الولايات المتحدة لم تُثر تلك المشكلة على الإطلاق مع وحدات الحماية الشعبية، حيث قال: «حتى الآن، لم تُناقش تلك القضايا، ولم نسمع أيّ شيء عن تلك الانتهاكات». هذا وقد رفضت كل من وزارتي الخارجية والدفاع الإجابة عن أسئلة محدّدة أو السماح لأي مسؤولين بمناقشة تحقيق مجلة The Nation، المموّل من صندوق التحقيق الصحفي، كما لم تجب وزارة الخارجية عندما طُلب منها أن تشرح كيفية عدّ وحدات الحماية الشعبية وحزب العمال الكردستاني بوصفهما كيانَين مختلفين، بينما قال متحدث عن القيادة المركزية للولايات المتحدة إنّه لم تكن لديه «أدنى معرفة» بعمليات طرد وحدات الحماية الشعبية للسكان، وقال كول. جون توماس: «هنالك تقارير وإشاعات، لا يوجد أي مجال لأتحدث عن أيّ ادّعاء خاص. نحن لا نتقبل ولا نعمل مع أي جهة تنتهك حقوق الإنسان أو قوانين الحرب».

أما مسؤولو واشنطن -تحدثوا من دون ذكر اسم المصدر- فقد قالوا إنّهم قد تطرقوا في حديثهم مع وحدات الحماية الشعبية إلى تلك الممارسات، وأخبروهم بالكف عن طرد السكان في المستقبل، وقد وصف مسؤول ذو رتبة عالية في إدارة أوباما، في أثناء حديث خاص، المنطقة الواقعة تحت سيطرة وحدات الحماية الشعبية بـ «دولة شمولية صغيرة».

قد يعود أحد أسباب شبه صمت واشنطن إلى حرجها بخصوص الشركة التي تخفيها وحدات الحماية الشعبية، حيث قال إبراهيم حسين، كردي، وكان يعمل قاضيًا محليًا في ظلّ نظام الأسد، وبقي في منصبه إلى شهر تموز/ يوليو 2014: «إنّ القوة الرئيسة التي تُديرهم هي الاستخبارات الإيرانية»، ووافقه القول شخص عربي سوري كان يشغل منصبًا مهمًّا في (المخابرات) في شمالي سورية، محمود الناصر، الذي انشق عن نظام دمشق في منتصف عام 2012، حيث قال: «إيران هي مصدر التمويل الأساس لحزب العمال الكردستاني».

يقول الأكراد والعرب، على حدّ سواء، إنه لفهم عمليات طرد السكان بالطريقة المثلى، علينا النظر إلى علاقة وحدات الحماية الشعبية بنظام الأسد، ويقولون إنّ محركات تلك العمليات لم تكن عرقيّة وإنّما سياسية، وموجّهة ضد المعارضة السياسية للأسد. وقال مقيمون سابقون إنّه وبالفعل كانت قوات «الأسايش» أو الشرطة العسكرية التابعة للوحدات، تصل إلى القرى بعد انتزاع السيطرة عليها من الدولة الإسلامية، بقوائم لمعارضي النظام، ثمّ تعتقلهم.

يمتد تعاون وحدات الحماية الشعبية مع نظام الأسد إلى جبهات القتال النشطة مؤخرًا، وحلب خير مثال على ذلك، حيث هاجمت قوات وحدات الحماية الشعبية في حي ضاحية الشيخ مقصود آخر طرق إمداد الثوار في القطاع الشرقي من المدينة في شهر تموز/ يوليو الماضي، مساعدةً بذلك نظام الأسد على إغلاق الطريق وإتمام الحصار، ما قاد إلى سقوط المدينة في شهر كانون الأول/ ديسمبر.

ألقت مقابلات أُجريت مع عشرات العرب والكرد الذين هربوا من روجافا، بظلال الشك على رواية وحدات الحماية الشعبية، والتي لطالما روّجت لها إدارة أوباما بوصفها الخصم البطولي للدولة الإسلامية، والقوة الوحيدة، فعلًا، في سورية، القادرة على قتال داعش.

كما تطلق وحدات الحماية الشعبية على نفسها لقب العدو اللدود للدولة الإسلامية، وفي الواقع، لقد خاض الطرفان معارك شرسة ضد بعضهما، ولكنّهما، غالبًا ما قاتلتا بالتناغم معًا، جماعات الثوار المعتدلة في حالات كثيرة ومُلاحظة، فقد قاتلت وحدات الحماية الشعبية عام 2013، لطرد ثوار الجيش السوري الحر المعتدلين من تل حميس ومن الحسينية في محافظة الحسكة، ولكنّها فشلت، ومن ثمّ تدخل مقاتلو الدولة الإسلامية بوحدات من الانتحاريين وسيطروا على البلدتين، ومن ثمّ سلّموهما إلى وحدات الحماية الشعبية في عام 2015 من دون قتال.

لقد كان الأمر معكوسًا في أواخر عام 2014، عندما هاجمت الدولة الإسلامية كوباني، جالبةً الضربات الجوية الأميركية التي قتلت ما يبلغ تعداده 2.000 من مقاتلي داعش. ووفقًا لساكنين سابقين، فقد هجرت وحدات الحماية الشعبية الأحياء المحيطة بكوباني لمصلحة الدولة الإسلامية من دون قتال، آمرةً السكان بترك قراهم التي كانوا يتوقون للدفاع عنها. لم يستحوذ طرد العرب إلا على القليل من الانتباه في وسائط الإعلام الدولية، خلال المدة التي جرت فيها بين عامي 2013 و2015، وقد يعود السبب في ذلك، ببساطة، إلى حدوثها بعيدًا عن المسارح الأساسية للحرب في سورية، ولكن تركت تلك العمليّات أثرًا عميقًا في نفوس أولئك الذين نفذوها، وكذلك في نفوس ضحاياها، وقد أكّد المشاركون تنفيذ قوات وحدات الحماية الشعبية بالاشتراك مع قوات نظام الأسد.

مهار، عمره 26 سنة، وقد وُلد في تركيا، حيث التحق هناك بحزب العمال الكردستاني، وكلِّف في شهر نيسان/ أبريل 2013 بالذهاب إلى شمالي سورية. توجّه بعد وصوله سيرًا على الأقدام، مُصاحبًا بـ 50 متطوّعًا آخرين، إلى منطقة المالكية (ديريك)، وهي بلدة ذات 60.000 نسمة على مقربة من الحدود العراقية. خلال شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر من عام 2014، وجّه الهجوم نحو قريتي عكرشة وسفّانة الواقعتين في أقصى الشمال الشرقي في سورية، واللتين كانتا في قبضة الدولة الإسلامية. وبعد طرد الدولة الإسلامية، هدمت وحدات الحماية الشعبية ثلاث عشرة قرية في المنطقة، وحرقتها، وتمثلت الخطوة الأولى بأمر السكان أن يخلوا منازلهم. وعن هذا قال مهار الذي يستخدم اسمًا مستعارًا لخوفه من التعرض لانتقام حزب العمال الكردستاني: «استلمتُ التعليمات بتدمير القرى، وأمرتُ رجالي بتدمير المنازل، وبتدمير القرى. لقد سكبوا البنزين على المنازل وحرقوها». خلّفت تلك التجربة ذكرى حارقة، لا تتعلق بالعرب الهاربين من القرى إنّما بالحيوانات التي لم تستطع الهرب، حيث أضاف عند لقائه في مكان خارج سورية: «لقد رأيت بقرة في منزل، ولسوء الحظ، احترقت حتّى ماتت. ما تزال تلك الحادثة حيّة في ضميري».

لم تكن تلك عملية وحدات الحماية الشعبية بمفردها، حيث زوّدها الجيش السوري بسلاح المدفعية لقصف القرية، وعن هذا قال: «هم زوّدونا بالدبابات والجنود. لقد أطلقوا النيران، نحن أخبرناهم أين يجب أن يقصفوا». كان النظام السوري يمدّ وحدات الحماية الشعبية بالأسلحة الثقيلة بصورة روتينية، حيث ذكر مهار: «أتذكر مرّة ذهبت فيها إلى الحسكة وحصلت على دبابتين». كما كان قادة آخرون يذهبون إلى القواعد العسكرية في القامشلي، المدينة الرئيسة في محافظة الحسكة، وكذلك إلى مدينة الحسكة للحصول على أسلحة وذخيرة من قوات الأسد.

وقال مهار إنّ الأوامر كانت تصل من الأعلى، لم يكن لأحد من داخل وحدات الحماية الشعبية الحق في اتخاذ القرارات، وإنّما قادة حزب العمال الكردستاني والمجلس الحاكم فقط، وذكرَ مسميًّا «فهمان حسيني» الذي يستخدم الاسم الحربي «|أهوز إردال»، ومورات كارايلان. وقال: «رأيت كثيرًا من القرى المحترقة»، وكان يتحدث عن تل براك، وهي بلدة أخرى في الشمال السوري حيث «قرر كارايلان أن يدمّر المكان برمّته، وألّا يسمح حتى لدجاجة أن تخرج منه حيّة».

لم تصل وحدات الحماية الشعبية إلى السلطة في سورية بطريق الانتخابات، إنّما بطريق «الدعوة»، بوصفه جزءًا من جواب نظام الأسد على الثورة التي بدأت في آذار/ مارس 2011، عندما احتلّت أعداد هائلة من السوريين الشوارع في المدن والبلدات السورية على طول امتداد البلاد. وعندما تقلّصت قواته بشدّة، قرر النظام أن ينقل وحداته البرية معظمها من شمالي شرقي سورية إلى درعا في الجنوب الغربي، حيث بدأت الثورة، ومن ثم إلى مركز سورية.

في اجتماع بدمشق في شهر آذار/ مارس 2011 مع قادة حزب العمال الكردستاني، كلّف مساعدو الأمن القومي حزب العمال الكردستاني، بمهمّة قمع التظاهرات المعادية للأسد في محافظة الحسكة، وذلك وفقًا لمحمود الناصر الذي كان في ذلك الوقت مسؤولًا رفيعًا في جهاز (المخابرات) في محافظة الحسكة، حيث قال: «كانت الرسالة لحزب العمال الكردستاني على النحو الآتي: لقد دعمناكم منذ العام 1983، والآن جاء دوركم لفعل شيءٍ من أجلنا». (كان محمود الناصر يشير هنا إلى تأسيس الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في دمشق في ظل دعم (المخابرات) السورية، كما قال الناصر إن نظام حافظ الأسد، والد بشار، لطالما شجّع الفرع السوري لتنفيذ عمليات حربية بوصفه قوة بالوكالة ضد تركيا).

وفي المقابل، بحسب قول الناصر، كان للميليشيا الكردية التي تطلق على نفسها بصورة رسمية اسم قوات الإدارة الذاتية الكردية، الحق في إقامة نظام الإدارة المدني الخاص بها في المناطق التي تحكمها، وأن تأخذ نصف عائدات انتاج النفط في المنطقة، وأن تحصل أيضًا على الأسلحة من قوات الحكومة الأمنية.

كما قال الناصر إنّ قاسم سليماني، رئيس قوات الحرس الثوري الإيراني في طهران، قد لعب دورًا محوريًا في التوصل إلى تلك الترتيبات، حيث عقد اجتماع مفتاحي في خريف عام 2011 في السليمانية، وهي مدينة في كردستان العراق، رتّب فيه سليماني عودة صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي، الرسميّة من العراق، حيث يقول أصدقاؤه إنّه كان مختبئًا هناك في إثر حكم محكمة صادر بحقه في سورية. كما تابع سيلماني قيادته للقوات الإيرانية التي تقاتل الآن مع حكومة الأسد ضد الثوار السوريين. جرى بعد ذلك تسليم الصلاحيات بسرعة، حيث سلّم نظام الأسد أكثر من نصف دزّينة من البلدات الكبيرة لحزب الاتحاد الديمقراطي، بما فيها القامشلي والمالكية وعامودا ورأس العين، وسمح للحزب بإنشاء حواجز تفتيش خاصة به، وبحمل السلاح على مداخل مدنه، ولكنّ نظام دمشق حافظ أيضًا، على حواجز تفتيش داخل القامشلي والحسكة، وفي شهر شباط/ فبراير 2012، أصدر النظام أوامر لقوّاته الموجودة في الحسكة بالسماح لحزب الاتحاد الديمقراطي، بخفر المنطقة الحدودية من دون أيّة قيود.

قبل بداية الثورة المضادة للأسد، كان لحزب الاتحاد الديمقراطي أتباع في الشمال الشرقي الكردي الواسع، ولكنه كان حزبًا واحدًا فقط من بين عدد من أحزاب المنطقة، كما توجه عدد الأكراد هناك باتجاه أكبر حزبين كرديين في كردستان العراق، ولكن تلك الأحزاب المُؤسسة جميعها خرجت من الحسبان من جانب الثورة الوطنية، والتظاهرات المحلية ضد نظام الأسد، التي قادتها مجموعات من الشباب المنظمين في لجان تنسيق. كان «حزب المستقبل» هو الحزب الكردي الأكثر قربًا من التظاهرات، وكان قائده يمشعل التمو، وهو مهندس زراعي ذو شخصية جاذبة. عارض تمّو وأكراد آخرون نظام الأسد، وسرعان ما أصبحوا الهدف الأوّل لقمع قوات وحدات الحماية الشعبية؛ فكان هناك عمليات اعتقال جماعية واغتيالات للقادة، أولى ضحاياها «تمّو» الذي قُتل في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ومن ثمّ محمود والي في أيلول/ سبتمبر 2012، وأحمد بونجق في أيلول/ سبتمبر 2013. وعن هذا يقول القاضي الكردي إبراهيم حسين: «لقد كان حزب الاتحاد الديمقراطي يعمل، وبكل تأكيد، تحت أوامر من النظام»، فقد «أخفي» كثير من معارضي النظام، الذين كانوا مدرجين جميعًا في قوائم المطلوبين من جانب الحكومة، ولم يُروا بعدها، واعتقل آخرون أو نفيوا. وفي أواخر العام 2013، قال قائد الشرطة العسكرية «الأسايش» جوان إبراهيم، في مؤتمر إخباري إنّ قوّاته قد اعتقلت 5.100 «شخص خارج عن القانون ومهرّب مخدرات» في المنطقة التي تتحكّم فيها.

لقد كان مسؤولو أجهزة المخابرات السورية على دراية بتنفيذ وحدات الحماية الشعبية سلسلة من الاغتيالات، وفي هذا المضمار قال الناصر، وهو مسؤول سابق في مخابرات النظام في شمال شرقي سورية: «لقد كانت لدينا تعليمات بعدم التدخل في حال قيام حزب العمال الكردستاني باغتيال أيٍّ كان؛ ولهذا السبب لم نفتح أيّ تحقيق على الإطلاق في اغتيال كثير من الناشطين».

حدثت أكثر الاعتداءات على معارضي النظام مأسوّية في حزيران/ يونيو 2013، عندما أطلقت قوات وحدات الحماية الشعبية النار، في تظاهرة في عامودا، قُتل نتيجتها ثلاثة أشخاص (وثلاثة أشخاص آخرون في المنطقة بعد ذلك بوقت قصير). كان المتظاهرون يطالبون حزب الاتحاد الديمقراطي بإطلاق سراح ناشطين معارضين للنظام كان قد اعتقلهم، ولكن حزب الاتحاد الديمقراطي اعتقل في اليوم التالي 100 شخص آخر، وأغلق مكاتب المعارضة جميعها في المدينة. قاد ذلك الاعتداء، إضافة إلى اعتداء آخر مثيل له، واعتقالات طالت قادة الحزب الكردي التي عارضت حزب الاتحاد الديمقراطي كافة؛ إلى هرب عشرات الآلاف إلى كردستان العراق، حيث يوجد الآن حوالى 300.000 شخص من أكراد روجافا، منهم من توجه إلى تركيا، حيث يوجد حوالى 200.000.

بدأت اعتداءات وحدات الحماية الشعبية على العرب في أواخر العام 2013، وذلك بارتكابها ثلاث مجازر، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان: بلدة الأغيبش في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وقتل فيها ستة أشخاص، وتل براك في أواخر شباط/ فبراير 2014، ووصل عدد ضحاياها إلى 43 مدنيًّا، والحاجية وتل خليل في أواسط أيلول/ سبتمبر 2014، حيث قُتل 42 شخصًا.

كما بدأت عمليات طرد السكان وتدمير القرى في الحسكة في أواخر العام 2013، ووصلت ذروتها بعدما بدأت القوات الجوية للولايات المتحدة ضرباتها لإنقاذ كوباني من هجوم الدولة الإسلامية في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وتسارعت في السنة التالية في الوقت الذي سيطرت فيه وحدات الحماية الشعبية، مدعومة بقوة الولايات المتحدة الجوية، على بلدة تل أبيض الحدودية التي هجرتها الدولة الإسلامية من دون قتال.

أمّا عمليات الطرد وتدمير القرى التي بدأت في أوائل العام 2014، فقد كانت مفاجئة، ولاح في ضوئها تعاون بين وحدات الحماية الشعبية، والدولة الإسلامية في العراق والشام، ونظام الأسد، بهدف طرد قوات الثوار المعتدلين من المعابر الحدودية المفتاحية، والمدن الرئيسة في المنطقة. ومرة تِلو مرة، في البلدات التي كان ينقص وحدات الحماية الشعبية فيها العنصر البشري أو الأسلحة لطرد الثوار، كانت قوات الدولة الإسلامية تصل على نحو غير متوقع مع وحداتها من الانتحاريين وتسيطر على الأرض، لتسلّمَها بعد ذلك للوحدات من دون قتال، وستطرد هذه الأخيرة بعد ذلك بقليل السكان العرب.

مثال ذلك، بلدة تل حميس، الواقعة إلى الجنوب من أكبر مدن روجافا، القامشلي، حيث استولى عليها ثوار لواء 313، مدعومين من جبهة أحرار الشام الإسلامية، من القوات الحكومية في شهر شباط/ فبراير 2013، ولم تتمكن وحدات الحماية الشعبية من انتزاعها منهم. وفي نهاية عام 2013، وسط العمليات القتالية، وصلت قافلة من 100 عربة، تحمل مقاتلين للدولة الإسلامية، على نحوٍ مفاجئ من شرقي سورية، وهزمت اثنين من ألوية الثوار؛ اللواء 114 ولواء الصقور، وذلك وفقًا لناصر ومصادر أخرى، وقال إنّ الدولة الإسلامية انسحبت فيما بعد إلى منطقة تبعد ميلًا واحدًا جنوبي تل حميس، تاركة السيطرة على المنطقة لوحدات الحماية الشعبية من دون قتال في شباط/ فبراير 2015، وكانت تلك هي المدة التي دمّرت فيها الوحدات بيوت السكان العرب، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، حيث بدأ ذلك بهدم عشرات البيوت في تلك البلدة ذاتها وحرقها، تبعها انتزاع السيطرة على 29 بلدة في المنطقة من الدولة الإسلامية، حيث دمّرت بعد مهاجمتها تسعًا منها تدميرًا كاملًا، بحسب رواية الشبكة السورية لحقوق الإنسان أيضًا. وعن هذا يقول سمير الأحمد، الصحفي العربي من الحسكة، المستقر في تركيا، والمتابع للأحداث عن قرب: «بحسب الناس أن الدولة الإسلامية قد أتت لمساعدة الجيش السوري الحرّ، لكنها عوضًا عن ذلك تمرّدت في أنحاء المحافظة جميعها، طاردةً الجيش السوري الحر من مواقعه كلها». وفي آذار/ مارس 2014، كان الجيش السوري الحر قد خسر معاقله في الحسكة كافّة.

وفي إشارة أخرى إلى تواطؤ الدولة الإسلامية مع نظام الأسد، سرق ناشطو داعش، في أول ثلاثة أشهر تلت سيطرة الدولة الإسلامية على تل حميس، حوالى 90.000 طن من القمح المخزن في البلدة، وباعه نظامَ الأسد الذي أوصله إلى اللاذقية التي تبعد أكثر من 300 ميل على ساحل المتوسط، بوساطة قافلة طويلة من الشاحنات، وفقًا لمحمود المهدي، رئيس مركز الحسكة التوثيقي في سانليورفا في تركيا.

كما عملت الدولة الإسلامية ووحدات الحماية الشعبية جنبًا إلى جنب في عام 2015 في الحسينية قرب تل حميس، التي كان الثوار قد سيطروا عليها في شباط/ فبراير 2013، وهاجمتها وحدات الحماية الشعبية في العام نفسه، ولكنها فشلت في طرد الثوار منها، أما الدولة الإسلامية فقد تمكنت من طردهم في آذار/ مارس 2014. وفي شهر شباط/ فبراير 2015، سلّم الإسلاميون القرية للوحدات من دون قتال، وبعد شهر، أحرقت الوحدات بيوتها معظمها، ودمرتها؛ حيث لا تُظهِر صور الأقمار الصناعية إلّا 14 بناء قائمًا فيها أواسط العام 2015، مقارنة بـ 225 بناء في صورة اُخذت قبل عامين، وفقًا لمنظمة العفو الدولية، ولكن المتحدث باسم حزب الاتحاد الديمقراطي، سيهانوك ديبو اتهم تقرير منظمة العفو الدولية ذاك بـ «اللاحِرفيّة».

وقال الصحفي السوري مضر الأسعد الذي أرّخَ للعمليات القتالية في الحسكة، بوجود مئات الأمثلة على قيام الدولة الإسلامية بالسيطرة على قرى من ثوار الجيش السوري الحر، ومن ثم تسليمها لوحدات الحماية الشعبية من دون قتال، ولا يُعدّ الأمر مقتصرًا على الحسكة.

لنأخذ أيضًا قرية الشيوخ مثالَا، وهي قرية عربية يقطنها 45.000 ساكن في شمالي محافظة حلب، على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتبعد حوالى 130 ميلًا إلى الغرب من تل حميس، حيث سيطرت قوات الثوار العرب في كتيبتي أحرار الشيوخ والشهيد عبد العزير كذال على القرية الخاضعة للنظام في شهر تموز/ يوليو 2012، ولكنها اتفقت في خطوة حاسمة على تقاسم السلطة على القرية مع وحدات الحماية الشعبية. وفي آذار/ مارس 2014، ومن دون سابق إنذار، هجر مقاتلو الوحدات مواقعهم لمصلحة الدولة الإسلامية التي أرهقت بعدها دفاعات الثوار العرب. بعد ذلك بعام، أي في آذار/ مارس 2015، حاك الثوار العرب ووحدات الحماية الشعبية خطة إعادة السيطرة على القرية، ولكن بعد ذلك وفقًا لعصام النايف، قائد كتيبة أحرار الشيوخ: «هاجم حزب العمال الكردستاني القرية من دون إخبارنا»، (مُشيرًا بذلك إلى وحدات الحماية الشعبية، فرع حزب العمال الكردستاني في سورية)، وكانت تلك هي اللحظة التي بدأ فيها الدمار؛ حيث هرب السكان من منازلهم خوفًا من معركة على أرضهم، ولكن بعد أن هجرت داعش البلدة من دون قتال، عمدت الوحدات إلى تدمير المزارع وحرق المنازل، كما حرقت 3.000 هكتار من بساتين الزيتون، وفقًا لقول نايف. ودمّرت قريَتين مجاورَتين، وحتى تاريخ اليوم لم يتمكن سكان قرية الشيوخ من العودة إلى أراضيهم.

قد يعود السبب في كون ممارسات وحدات الحماية الشعبية لا تتلاءم مع التصور السائد عن الميليشيا، بوصفها المعارض البطولي للدولة الإسلامية، والمبالغة في تقديم ذلك التصور؛ حيث اشتهرت أسطورة الوحدات كالقوة البرية الفعالة الوحيدة ضد داعش عندما حاصرت الأخيرة كوباني (عين العرب)، البلدة الكردية السورية الحدودية، في خريف عام 2014، فبعد أشهر من القتال، أنقذ مقاتلو وحدات الحماية الشعبية الشجعان، وبمساعدة من الضربات الجوية للولايات المتحدة، البلدة، أو هذا ما تقوله الأسطورة. ولكنّ عشرات آلاف الأكراد الفارين من منطقة كوباني، يروون قصة مختلفة؛ إذ سلّمت وحدات الحماية الشعبية المناطق النائية من المدينة إلى الدولة الإسلامية من دون قتال، في الوقت الذي شاهد فيه النظام السوري، شريك الوحدات الصامت، تقدم قوافل الدولة الإسلامية المسلحة عبر الريف في اتجاه كوباني. ووفقًا لإبراهيم حسين، القاضي الكردي في منطقة شمالي سورية في ظل حكم كل من الأسد ومن ثم حزب الاتحاد الديمقراطي حتى أواسط العام 2014، فقد كانت العداوة بين الدولة الإسلامية ووحدات الحماية الشعبية مُختلقة، كما قال إنّه قبل وصول داعش إلى القرى في المناطق النائية، «كانت وحدات الحماية الشعبية تأتي وتُخبر الناس أن داعش تنوي الهجوم»، وعندما كان السكان المحليون يصرون على الدفاع عن قراهم، كانت الوحدات «تجبرهم على المغادرة بتهديد السلاح».

ما حصل لاحقًا هو تدفق هائل للأكراد إلى تركيا، حيث كان يوجد 400.000 كردي في منطقة كوباني قبل هجوم الدولة الإسلامية، ولكنّ إحصاءً رسميًا في نهاية القتال كشف عن بقاء 200.000 فحسب. وعن هذا قال حسين الذي يعيش حاليًا في جنوبي تركيا: «أين هم 200.000 الآخرين؟ لقد هربوا قبل مجيء داعش».

أمّا عبد السلام أحمد، متحدث باسم حزب الاتحاد الديمقراطي، فقال إنّ تلك الانتقادات «لا تستحق الرد»، متّهمًا منتقدي وحدات الحماية الشعبية بأنّهم يعملون لصالح الاستخبارات التركية، كما قال إنّ كل ما يريدون هو «إعطاء صورة مشوهة عن الأساطير البطولية التي تسطّرها وحدات الحماية الشعبية».

كانت تلك البداية المنحوسة لعمليات الولايات المتحدة المشتركة مع وحدات الحماية الشعبية، ففي الوقت الذي احتفلت فيه إدارة أوباما بتدخلها في كوباني بوصفه نصرًا، استغلت الوحدات تلك الفرصة لاستكمال تنفيذ أجندة أكثر شرًا؛ حيث ترافق ازدياد التعاون مع الولايات المتحدة في عام 2015 مع زيادة في طرد الوحدات للعرب من المناطق الحدودية الشمالية، وبلغ ذلك الأمر ذروته في منتصف عام 2015، مع تهجير (أو منع عودة) نحو 60.000 عربي بعد استيلائها على تل أبيض الواقعة على الحدود التركية، وذلك وفقًا لسعد شويش، الرئيس المنفي للمجلس المحلي في الرقة.

ذكر شويش الذي يعيش الآن في جنوبي تركيا، وغيره من المراقبين عن قرب والهاربين من روجافا، إضافةً إلى كل من منظمة العفو الدولية والشبكة السورية لحقوق الإنسان؛ عشرات الأمثلة طردت فيها وحدات الحماية الشعبية العرب من منازلهم، عن طريق تهديدهم بضربات الولايات المتحدة الجوية. حدث إحدى تلك الأمثلة في بير محلي، شمال شرقي حلب، حيث طلبت الوحدات من أهل القرية أن يهجروا منازلهم، مهدّدة إياهم بتسليم إحداثياتهم إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إن لم يفعلوا. وبالفعل، في 30 نيسان/ أبريل 2015، دعت الوحدات إلى الضربات الجوية التي قُتل فيها 64 شخصًا من سكان القرية، من المدنيين كلهم، وذلك وفقًا لـ «Airwars»، مجموعة رصد عمليات قصف التحالف للمدنيين والمتمركزة في بريطانيا.

وتعدّ قرية عربيد الرعوية البدوية مثالًا آخر، حيث رفض 500 ساكن فيها المغادرة بعد سيطرة وحدات الحماية الشعبية، في شهر حزيران/ يونيو 2015، على تل أبيض شمالي القرية، وعن هذا قال شويش: «هددت الوحدات بإعطاء إحداثيات القرية للقوات الجوية الأميركية»، وعندما بدأت مروحيات الأباتشي التحليق على علوٍّ منخفض فوق القرية، قرر سكانها المغادرة في اتجاه قرىً أخرى، ولم يعودوا إليها حتى الآن؛ ولم تجب وحدات الحماية الشعبية على طلبنا في التعليق عن ذلك.

وأضاف شويش: في أعقاب عمليات الطرد، تسيطر وحدات الحماية الشعبية على الأملاك بصورة روتينية، وتمنع السلطات الناس من العودة إلّا في حال عثورهم على كفيل كردي، ويُعرف ذلك التشريع باسم «قانون الكفيل»، ولكن ليس من السهل إيجاد أولئك الكفلاء في منطقة بمثل شمالي الرقة، حيث يمثّل الأكراد نسبة 10 في المئة من السكان.

يُعدّ طرد السكان المدنيين، في حال غياب التهديد المباشر بنزاع، جريمة حرب في القانون الدولي الإنساني، وإن كانت عمليات الطرد واسعة ومنهجية، تعدّ عندها جريمة ضد الإنسانية، ولهذا السبب فقط تطرح عمليات طرد السكان من جانب وحدات الحماية الشعبية في عامي 2014 و2015 الأسئلة عن مسؤولية الولايات المتحدة: فهل كانت حكومة الولايات المتحدة على دراية بعمليات الطرد وقت حدوثها؟ وهل حاولت إيقافها؟ هل كان من الحكمة ربط القوة الجوية للولايات المتحدة بجناح حزب العمال الكردستاني في سورية (الجماعة التي تملك أجندتها السياسية الخاصة بها في سورية وتركيا) لتحقيق الغاية العسكرية بمهاجمة الدولة الإسلامية، ولكن من دون الاتفاق على النتائج السياسية؟

لقد رفض كل من البنتاغون وورزاة الخارجية مناقشة تلك الأسئلة، أو أي أسئلة أخرى متعلقة بسياسة الولايات المتحدة في روجافا، كما رفض مبعوث إدارة أوباما الخاص، بريت مكغيرك، طلبات عدّة للقائه، بينما طلبت وزارة الخارجية أسئلة مكتوبة، ولكنها رفضت الإجابة عنها، وقالت في تصريح رسمي بعد استلامها أسئلة مجلة «The Nation» بأسبوعين: «تحافظ حكومة الولايات المتحدة على التواصل مع حزب الاتحاد الديمقراطي وكيانات سياسية أخرى مرتبطة به عبر قنوات عدّة. إنّ تلك الصلات تراوح بين ممثلين عاليي المستوى وأعضاء من الإدارة المدنية المسؤولين عن مهمّات عدّة غير أمنيّة متعلقة بالحكم. كما لدينا صلات مع أعضاء من كيانات مرتبطة بالإدارة الذاتية (التسمية البديلة من إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي) مسؤولين عن إدارة الشؤون المدنية في مناطق الأغلبية العربية في سورية. تستخدم وزارة الخارجية تلك الصلات للترويج لسورية موحدة وغير طائفية، وتحترم حقوق الإنسان والتنوع والاندماج، وغيرها من القيم الديمقراطية. كما تشدّد وزارة الخارجية على الالتزام المشترك لهزيمة الدولة الإسلامية في العراق والمشرق».

تباطأت عمليات الطرد في عام 2016، ولكنّها أصبحت، على الأقل في حال واحدة شديدة القسوة. تمثّل ممارسات وحدات الحماية الشعبية المعيارية، أساسًا، انتهاكًا صارخًا لقوانين النزاع المسلح، حيث لم تكن هناك أي إجراءات قانونية عندما كان عناصرها يأمرون السكان بترك بيوتهم وأرزاقهم وممتلكاتهم الدنيويّة معظمها، وكان ذلك يحدث عادة بوصول رجال مسلحين وملثمين في منتصف الليل يُخلون المنازل بالقوة، ويتلوهم عادة سارقون (معفّشون) منظّمون يجرّدون الممتلكات ويتركونها عارية، ويسحبون محتوياتها.

لكن حتى تلك الانتهاكات الجسيمة بلغت مستوى جديدًا من الدناءة في قرية حمام التركمان التي بلغ عدد سكانها 1500 نسمة في أوائل العام الماضي. تقع تلك القرية جنوبي تل أبيض، وشمالي الرقة، عاصمة خلافة الدولة الإسلامية. كانت حمام التركمان نقطة انطلاق غارات الدولة الإسلامية على تل أبيض، الأمر الذي حصل في شهر شباط/ فبراير 2016. قتلت الدولة الإسلامية، بدخولها حمام التركمان ثلاثة أشخاص، واستخدمت سكانها دروعًا بشرية، ومن ثم قتلت في تل أبيض عدًدا من مقاتلي وحدات الحماية الشعبية. لكنّ قوات الوحدات البرية، مدعومة بتدخل الولايات المتحدة الجوي، طردت الدولة الإسلامية إلى خارج تل أبيض وحمام التركمان، وكانت تلك هي اللحظة التي بدأت فيها الوحدات بمعاقبة سكان القرية بسبب نقص استعدادها: ففي وقت مبكر من آذار/ مارس 2016، وصل قادة وحدات الحماية الشعبية إلى البلدة، وأمروا سكانها بالتوجه إلى باحة مدرستها، واتهموهم بالخيانة والوقوف في صف الدولة الإسلامية، وذلك وفقًا لنسيم التركماني، الناشط الإعلامي من تلك القرية. وبعد ذلك بأيامٍ عدّة عادت الشرطة العسكرية (الأسايش) وفي حوزتها قوائم، مدّعية بأنها تعود إلى أشخاص يقاتل أبناؤهم مع الدولة الإسلامية، وأمرت عشر عائلات بالتوجه سيرًا على الأقدام إلى الرقة التي تبعد أكثر من 40 ميلًا جهة الجنوب. (تجدر هنا الإشارة إلى سجل وحدات الحماية الشعبية الفاشل في الدفاع عن البلدات التي تسيطر عليها، ومن ثم اتهامها الآخرين. ففي أواخر شهر حزيران/ يونيو 2015، اجتاحت الدولة الإسلامية كوباني وقتلت 286 شخصًا، وجّهت في إثر ذلك الوحدات اللوم لتركيا لسماحها بدخول المقاتلين، ولكن في الحقيقة أعادت وحدات الحماية الشعبية عند ذاك تحريك قواتها إلى بلدة تل أبيض للدفاع عنها). ولاستكمال القصة، غادر 100 رجل وامرأة وطفل في الليل، وبعد سير مسافة 15 ميلًا، أقلتهم العربات المسافرة مجّانًا في ما بقي من الطريق، وصلوا أول حاجز تفتيش للدولة الإسلامية، ولحسن الحظ قبِلت الأخيرة روايتهم، وسمحت لهم بالدخول إلى المدينة، وزوّدتهم بالملاجئ في بيوت الأكراد التي كانت قد طردتهم، وقد زار تركماني بعض تلك العائلات، وعن ذلك أخبر مجلة «The Nation» قائلًا: «إنهم جميعهم مزارعون تركمان سنّة فقراء، كان يعيشون من نتاج مزارعهم. الآن، في الرقة، لا يستطيعون إيجاد الطعام ليأكلوا». يعيش تركماني الآن في جنوبي تركيا.

كان لسيهانوك ديبو، المتحدث باسم حزب الاتحاد الديمقراطي شرحٌ جاهزٌ عن مهزلة حمام التركمان، حيث قال إن «عناصر» من سكان تلك القرية، كانوا متواصلين مع الدولة الإسلامية قبل الهجوم، وإنّها هي التي «جاءت بالحرب إلى تلك البلدة»، وادّعى أن طرد أولئك السكان قد حدث «بناءً على رغبة أهل حمام التركمان»، لكنه أضاف أنه لم يكن على علم بأمرهم بالمشي إلى الرقة. وقد كان لمتحدث آخر، وهو عبد السلام أحمد، رؤية مختلفة للرواية؛ حيث ادّعى أنّ المطرودين من حمام التركمان قد عادوا إلى القرية.

حدثت في عام 2016 عملية طرد نموذجية أخرى، أقل قسوة بقليل، وكان ضحيتَها إبراهيم أبو عمر وعائلته، سوريون عرب يملكون مزرعة في تل أبيض، على الجانب المقابل مباشرة من الحدود لأكاكال، البلدة التركية؛ حيث قَدِمت قوات من وحدات الحماية الشعبية إلى منزله لأول مرة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ملوّحة بأسلحتها الرشاشة، وطالبة منه المغادرة، ويتذكرهم وهم يسألونه: «أين أولادك؟»، أجابهم: «هم جميعهم يعملون في الخارج». ثمّ قالوا له: «إمّا أن تذهب لإردوغانك وتجلب أولادك، أو أن تغادر!»، وكانوا يشيرون إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فتجاهل ذلك الأمر. لكنّهم عادوا بتاريخ 4 نيسان/ أبريل 2016 في الساعة التاسعة ليلًا، حين هاجمت قوة مشكّلة من خمسين رجلًا مسلّحًا، بحسب تقديره، منزله، واحتجزوا ابنه ذا اثني عشر عامًا، وإحدى بناته، وبدؤوا ضربهما، حيث قال: «أخبروني بأنهم سيعودون في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي، وقالوا لي (لا نريد أن نجدك في المنزل). تجاهل التحذير، ولكن في الساعة الخامسة من مساء اليوم التالي، جاء ضابط إلى منزله، وأمره أن يذهب (لعند إردوغان)، وقال مرددًا كلام الضابط: إن رأيتك مجدّدًا في تل أبيض سأقتلك، اذهب إلى تركيا، اذهب إلى تركيا، اذهب إلى أي مكان». وقد سُمح للعائلة بالمغادرة مصطحبةً الملابس التي ترتديها فحسب.

سارت عائلة إبراهيم أبو عمر عبر حقول المزارع أيامًا، حتّى وصلت إلى قرية عربية، وتواصلت مع أقاربها في تركيا، وبعد النوم على الحدود لمدة أربعة أيام، دفعت نقودًا لمهربين لقيادتها إلى تركيا. تسكن العائلة الآن في منزل كان ما يزال قيد البناء عند لقائهم.

وبينما كانوا يغادرون منزلهم في تل أبيض، شاهد إبراهيم وصول الشاحنات لتأخذ ممتلكاتهم جميعها، وبعد ذلك سمع من الجيران عن قيام وحدات الحماية الشعبية بمصادرة منازله الستة وملحقاتها، إضافة إلى مضخات الري وتجهيزات مزرعته، حتّى إنّهم انتزعوا الأشجار الصغيرة من الأرض.

02

الصورة: إبراهيم أبو عمر، 61 عامًا، مع عائلته بينما يصف طرده من منزله في تل أبيض، سورية، الربيع الماضي (2016) من جانب الميليشيا الكردية «وحدات الحماية الشعبية YPG». (روي عوتمان).

ما جريمتهم التي ارتكبوها؟ قال إبراهيم: «سألت الضابط، وقال لي: اخرس». إبراهيم، 61 عامًا، وزوجته جميلة الحسين يوسف، 51 عامًا، قالا إنّهما غير مهتمّيَن بالسياسة، ولا صلة لهما بالدولة الإسلامية، عندما احتلّ المتشددون الإسلاميون تل أبيض، ويظن كلاهما أنّ جريمتهما تتلخص في أن ابن أخ لإبراهيم متطوّع مع قوات الثوار المعتدلة.

ما تزال وحدات الحماية الشعبية تأمر -حتّى اليوم- العائلات العربية بمغادرة قراها في المنطقة الحدودية، وذلك وفقًا لابن ابراهيم، أسعد البالغ من العمر 28 عامًا، وتطلب الوحدات، عادةً، من العائلات كلها تسليم أحد أبنائها للخدمة العسكرية في صفوف قوات سوريا الديمقراطية – التي تقودها الوحدات ذاتها، وتخدم الآن بمثل القوات البرية الحليفة لأميركا- أو مغادرة المنطقة.

في مناطق أخرى من روجافا، تعتقل وحدات الحماية الشعبية الأكراد المرتبطين بأحزاب سياسية أخرى، والعرب المعارضين لنظام الأسد، وتعذبهم وتنفيهم، وعن هذا يقول معمر أبو محمد، الناشط من محافظة غربي الحسكة: «يواظبون على اعتقال الناشطين وأعضاء المعارضة مرارًا وتكرارًا إلى أن يقرر الأخيرون المغادرة بأنفسهم». تعرّض أحد أصدقائه للاعتقال خمس مرات، «ولكنّهم وضحوا له أخيرًا أنّه ليس مرحّبًا به» لو بقي، لتعرض للمحاكمة أمام محكمة الإرهاب، وواجه عقوبة السجن لمدة تتراوح بين خمس سنوات وعشر سنوات، لذلك «تكتفي الأغلبية بالمغادرة».