تحرير الرقة: بين برابرة سيئين وبرابرة جيدين
رئيس التحرير
يُتَوقعُ أن تكتمل خطة تحرير الرقة بعد مرورها مرحلتين، يتفاصل بينهما إنجاز الشق المدني عن الشق العسكري. وقد بات يلوح في أفق الحدث العام أن التوافق الدولي والإقليمي قد وصل إلى نهاياته، وأن طبيعة التحالف الأميركي الروسي التركي قد انطوى ما تجلى منه عن هامش تنازل أمريكي للأتراك في المحيط الشمالي لمحافظة حلب، مقابل تعهدين تبذلهما الإدارة الأميركية لتركيا، وهما إشراك قوات قسد “فقط” في المرحلة الأولى من خطة تجريف داعش من المحافظة، واشتراك القوات التركية في العمليات العسكرية التي سترافق هذا التجريف.
داعش اليوم على أبواب النهاية فصولاً، والتراجيديا الداعشية المتغيرة، والمُعَايَرَة مع طبيعة التدخلات الدولية، توشك على الوصول إلى ختامها. هذا أمر بالوسع المراهنة عليه، لكن ما يختبىء خلف هذه النهاية التراجيدية قد لا يقل أهمية عن المُشَاهَد والمُتَابَع يومياً على الأرض. وأول خفايا المشهد المراقب يومياً هو أن الحلف الروسي الإيراني قد وصل إلى ذروته وخواتيمه، مع مايُتَوَقَّع من وقف تقدم قوات النظام حتى حدود مسكنة، بعد تلك الملحمة الدموية التي استأصلت سكان مسكنة وما يحيط قبْلها وبعدها من قرى وأهلين، وهو مشهد اجتثاث للسكان مثير للذعر ونادر الطابع بكل المقاييس، مع العلم أن تلك القوات التي اقدمت على اجتثاث سكان المنطقة هي في الأعم ميليشيات إيرانية في غالبيتها، متلطية في التغطية العامة بقوات جيش النظام.
خطة “ترامب” على ضرب إيران بقفازات ناعمة إذن، ولكن حاسمة ومركزة، سوف تبدأ من”تشليح” إيران مناطق نفوذها إمعاناً في تعريتها وسحب مناطق سيطرتها، وهي عموماً عواصم ودول عربية تقع اليوم تحت قبضتها المباشرة، ومن هنا يمكن قراءة الزخم العسكري في ضخ القوات الأميركية في شمال الرقة بهذه الكثافة في الأسبوع الفائت، وما رافقها من تحشيد لسلاح ثقيل وإمكانات يبدو واضحاً من ورائها أن الإدارة الأميركية لا تنوي تحرير الرقة فحسب، وإنما الاستيطان في الأرض والتلبث في أماكن سيطرتها المزمعة لعشرات السنين القادمة. وبهذه الخطة المفصلة على قياس حسابات الإدارة الأميركية الجديدة، سوف يُضمَن قطع الطريق بين إيران والعراق من جهة، وسوريا الداخلية ولبنان، حيث يقبع نظام الأسد وحزب الله، مخفر إيران المتقدم في المنطقة، من جهة أخرى.
ليست داعش وحدها هي التي شوَّلت شمسُها نحو المغيب، بل الأكثر أن حلفاء الإدارة الأميركية المعتَمَدين على الأرض كقوة رئيسية مقاتلة، قوات “قسد”، هم أيضاً باتوا من مشروع انحسار نفوذهم وتمددهم في المنطقة قاب قوسين أو أدنى، ويبدو واضحاً أن المزامنة تقنياً بين صناعة داعش وصناعة الـ “pyd” لا في البدايات فحسب، بل وفي النهايات أيضاً.. وهذا أحد أهم الأثمان التي تعهدت بها الإدارة الأميركية للأتراك مقابل اشتراك القوات التركية في العملية العسكرية،(ولنتذكر أن الأتراك قد قدموا تنازلاً كبيراً وذا أثر خطير حين وافقوا على تسليم منبج لقوات النظام، “جكارة بالطهارة”، أو “جكارة” بالميليشيات الكردية التي افتتحت”بسطات” على امتداد حدودهم تحت مسمى الإدارات الذاتية، وهم ينتظرون مقابلاً يكافىء هذا التنازل)، وهو اتفاقٌ بات واضحاً أن الروس مُطَّلعين عليه، وقد جرى التفاهم معهم على كامل تفاصيله.. كما يمكن قراءة التسريبات السرية المؤكدة عن اتفاق بين ميليشيات صالح مسلم والقادة الميدانيين المعلنين في داعش، وعلى رأسهم ماتسرب عن اتصال بين الميليشيات الكردية و”توباد البريج”، والتوصل إلى اتفاق على تسليم ناحية الكرامة وسحب مقاتلي التنظيم منها دون قتال، وتصفية ابن فواز الكردي،”أبو علي الشرعي” من قبل أهل الكرامة وليس على يد القوات الكردية، لأنه فيما يبدو فكر أو خطط للتمرد على هذا الاتفاق المبرم؛ كل ذلك يحمل أكثر من دلالة بالغة الأثر.. قد يكون من مضامينها أن ميليشيات صالح مسلم باتت تتوجس خيفة من النوايا الأمريكية، وما محاولات الاتصال السابقة بالنظام، والتهديد بالتنسيق معه، وإعادة توزيع التحالفات من جديد، سوى ورقة تلويح بالضغط على الأمريكان لم تُجْدِ فتيلاً فيما سبق، ولم تثنِ الأمريكان عن خطتهم، مما حث الميليشيات الكردية على التلويح المبطن بأنهم إذا ما قرر الأمريكان الضغط عليهم أكثر، وتحجيم المزيد من نفوذهم وحركتهم على الأرض، فإن ورقة اللعب بداعش والتنسيق المبطن معها، قد تكون خياراً لهم وإن بدا انتحارياً من حيث الشكل.
لسوف تعتمد القوات الأميركية في تحالفاتها الجديدة على قوات عربية يُتَوافَقُ عليها من أهل المنطقة، ومنذ هذه اللحظة يمكن قراءة تمدد ميليشيات صالح مسلم نحو الشرق على أنه خضوع لـ”فيتو أميركي صارم” بعدم الاقتراب من المدينة، والتلبث حتى اللحظة في محيطها. وما يمكن استخلاصه أيضاً أن داعش سوف تندحر وتنجحر جنوباً باتجاه بادية الشام، ربما حتى جنوب الرصافة وآبار النفط، وهذا وضع يناسبها مؤقتاً لأسباب كثيرة مثلما يناسب الخطط الأميركية ويَتوافق معها، فهي ستبقى، أي داعش، لفترة قد تقصر أو تطول تمارس عمليات التفجير والتفخيخ والهجومات المباغتة لفترة مابعد تحرير الرقة، حتى تظل ورقة ضاغطة بيد الأميركان تجاه كل القوى، المحلية والخارجية، التي قد تسول لها نفسها في المستقبل أن تتململ من وجودهم الذي يبدو أنه سيكون طويلاً، ناهيك عن أن تفكر بالتمرد عليه. ويبقى المُعَوَّلُ عليه في النهاية هو أن يعي سكان المحافظة، وأهل الرقة المدينة خاصة، ما ترتبه صلابة موقفهم في المستقبل من تمسك بتحرير مدينتهم ولو جزئياً وعلى مراحل، وبذل كل إرادة ممكنة في الدفاع عن حرية قراراتهم واستثمار الواقع الجديد من أجل تنمية وتطوير إمكانية فرص التحرر الشامل على كافة الاصعدة.