Views: 81 نخجل من الرّقة – الرقة بوست-Raqqa Post

نخجل من الرّقة

لا أدري ما هو السر الذي جعل للرّقة في وجداني كل هذا الحضور. كنت أُلَبِّي أيةَ دعوة تُوَجَّهُ إليَّ لزيارتها، حتى ولو كانت من أجل حضور مهرجان (خطابي).. ألبّيها أنا الذي أكرهُ الخطابةَ إلى حد التحريم، لأن الخطابة قتلتنا في الماضي، وتقتلنا في الحاضر، وسوف تقتلنا في قابل الأيام، وستظل تقتلنا طالما أننا متمسّكون بها، بالأيدي والأرجل.
أكتب الآن عن الرّقة، بمناسبة توافق “داعش” مع النظام ودول العالم كلها على ضرورة تدميرها وإبادة شعبها. أتذكّر الشاعر عبد اللطيف خطاب، بشَعْره المخوتم، وشِعْره العذب المتمرّد، ومزاحه الناعم الذي يفجر في الجلسات ضحكاً عالياً، وكيف أنه مات ولم يكفَّ عن شراء الكتب من مكتبة اسطنبولي في عَبَّارة حلب، بالدَيْن.
أتذكّر الفنان عنايت عطّار بقبعته الأنيقة، والشاعر إبراهيم الجرادي، والقاص خليل جاسم الحميدي، والمسرحي حمدي موصللي الذي كان يضحك أكثر مما يأكل ويشرب، وصبحي دسوقي. أتذكّر عبد السلام العجيلي بصوته الجهوري، وتواضعه الذي يجعله يجيب على أي سؤال يُوجه إليه باستفاضة، وإصراره على أنه طبيب، وأن الأدب بالنسبة إليه ليس سوى ورطة، وأنه لا يكتب بهذه الغزارة إلا لكونه يشبه المسمار الذي سئل عن سبب دخوله في (الحيط) فقال: من كثرة الدقّ على راسي بالمطارق.
كتبتُ عن العجيلي، ذات مرة، وكيف أنه دُعي لإلقاء محاضرة في سراقب، فقال: محاضرة عن ماذا؟ فقالوا له: أنت اختر الموضوع، حتى ولو كان حديثاً من الذاكرة، المهم أن تزورنا. فلمّا حضر، ورآني هناك، خطر له أن يتحدّث عن الفكاهة. تطرّق لبعض قصصي الأولى، ثم أسهب في الحديث عن حسيب كيالي، وتشيخوف، والهمذاني، فكان حديثُه من أجمل وأعمق ما يمكن أن يقال في مجال السخرية والفكاهة. الحقيقة أنه بدأ السخرية بنفسه، فقال: إنني مستغربٌ إصرار أهل سراقب على اللقاء بي، فهذا يذكّرني بالحريري الذي كان قميء المنظر، لا يحب ملاقاة الناس. وذات مرة جاءه رجل، وألح في الطلب لمقابلته، وأوضح لذويه أنه تجشّم عناء السفر من بلاد فارس، خصيصاً لكي يراه ويعرفه، فخرج إليه الحريري، وحينما رآه شعر بالصدمة، فأنشده الحريري:
ما أنت أولُ سـارٍ غَـرَّهُ قَمَرٌ/ ورائـدٍ أعجبتـْهُ خضــرةُ الدِّمَنِ
فاخترْ لنفسك غيري إنني رجلٌ/ مثلَ “المُعِيْدِيِّ” اسمعْ بي ولا تَرَني
في السنة ذاتها، دُعيت لحضور مهرجان العجيلي، فركبتُ سيارتي “الهونداي فيرنا” وشَرَّقْتُ.. وحينما وصلتُ إلى الفندق، قابلني أصدقاءُ الأدب الذين دعاهم مدير المركز حمود الموسى من مختلف أنحاء البلاد، وسلمنا على بعضنا مباوسةً، ثم حكيتُ لهم، بعد أن جلستُ، ما جرى لي في الطريق، وهو أنني كنت أقلّب محطات الراديو، كعادتي، وأصغي إلى بعض نشرات الأخبار والبرامج والأغاني العاطفية. ولكنني فوجئتُ، بعدما تجاوزتُ حدودَ مدينة مَسْكَنة أن إرسال المحطات كلها غاب، ولم يبقَ مسموعاً لديَّ سوى إذاعة دمشق، فاضطررتُ لأن أصغي إلى حوار مدته ثلاثة أرباع الساعة مع الرفيق عمّار بكداش وريث خالد بكداش مؤسس الشيوعية “البكداشية” الأول. ومعروفٌ ولع الرفيق عمّار بالخطابات الإنشائية وتأييده النظام بوصفه، على حد زعمه وزعم الرفاق السوفييت، نظاماً وطنياً. قال أحدُ الأصدقاء مستفظعاً: وأصغيتَ إلى خطابته كلها؟! قلت: إي والله، فأنا لا أستطيع أن أسوق من دون راديو. فقام يسلم علي مباوسةً مجدداً ويقول: ألف الحمد لله على سلامتك!
أخيراً: لم يكن في الرّقة أي جذر لداعش. لو أن أحداً من الناس وجه إليَّ، في سنة 2010، السؤال التالي: إذا صارت في سورية ثورة، وركبَ عليها الإسلاميون، وأجهضوها، واخترعوا دولة اسمها “داعش”، فبرأيك، من أية محافظة في سورية يمكن أن تنطلق؟ لربما أذكر له، في الجواب، عدداً من المحافظات والمدن، ليس بينها الرّقة التي علينا أن نخجل منها.

خطيب بدلة – العربي الجديد


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage