Views: 157 عيسى الشيخ حسن: بلاغة الزلزال.. في الثورة والبيت والكتابة – الرقة بوست-Raqqa Post

عيسى الشيخ حسن: بلاغة الزلزال.. في الثورة والبيت والكتابة

ظلّ الحاج عيسى الذيبان يحذرنا عشرين عامًا، كلّما وقف خطيبًا ظهيرة الجمعة مفتتحًا بمطلع سورة الحجّ: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَیۡءٌ عَظِیمࣱ ۝١ یَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّاۤ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ، وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِیدࣱ ۝٢”.

حفظنا الآيتين عن ظهر قلب، وامتلكنا تصوّرًا مفزعًا عن أهوال تلك الساعة. كانت الأرض حينئذٍ تلبس ثوب العافية فينسينا ذلك صورة الأهوال التي يمرّرها الشيخ في الصلاة ثواني معدودة. كانت الأرض ملعبًا كبيرًا، وكنا نركض فوقها ونلعب الكرة، ونحصد القمح، ونستمتع بالمشي في دروبها متباهين بالأحذية القماشية البيضاء (الأحذية الصينيّة)، آمنين مطمئنّين، على الرغم من أنّ الزلازل تثور في مناطق متفرّقة من العالم.

ولذلك؛ حين أفكّر في الزلزال بوصفه نصًّا، له إيقاعه وبيانه ومجازاته ونشيده الخاصّ؛ فإنّني أعود إلى صورة الحاجّ فوق منبر متقشّف، محدّدًا لنا “بلاغة الزلزال” المتبوعة بآثاره في الناس الذين خرجوا: “من كلّ حدب ينسلون”، يحاولون القبض على ذلك النصّ الغامض المباغت، بوصفه مشهدًا مسرّبًا من أهوال يوم القيامة، المشهد العصيّ على نمط السرد الكسول -عربيًّا على الأقلّ- الحاضر في آثار أدبيّة متباعدة قرأناها أو قرأنا عنها.

حين غادر الإنسان الأوّل الكهف، استأنس الثور وحرث عليه، وبنى البيت، وحين أحوجه نمط العيش الجديد إلى الكتابة، اصطحب معه رفيقيه الثور والبيت، فكانا الألف والباء، ثمّ أدخل إلى حديقة الكتابة الجَمَل، والنهر والسمكة والكفّ. ولكنّ الـ “ألف بي” أو الـ “الألفا بيتّا” ظلّت ثنائية تشي بالحكاية القديمة، حكاية الثور الذي حرث، والبيت الذي آوى، قبل أن تُذبح الثورة ويتهدّم البيت.

في البدء كان الكلمة، وحين أراد الإنسان تقييدها كانت الكتابة. الكتابة قيد، الإمام الشافعي يراها حبال صياد المعرفة: “العلم صيدٌ والكتابة قيده”، وكان الناس يأتون إلى دكّاننا ويقولون لأبي “قيّد” علينا ثمن كذا وثمن كذا، أي اكتب علينا في “دفتر الدين”. كان أهلنا يوم ذاك يذبحون الذبائح إذا أتقن أحد أبناءهم تقييد الكلام بحبال الكتابة.

كنت في العاشرة حين صُمت لأوّل مرّة. السبت 6 أيلول 1975، ولم يكن الصيف غادر تمامًا، ضحى ذلك اليوم كما أتذكّر، كنّا جالسين في “السيباط” ذلك العريش الذي بناه جدّي، هربًا من السقف الكونكريتي. حين ارتجّت بنا الأرض رجّة خفيفة لبضع ثوانٍ، كان هذا أوّل عهدي وآخره بالزلازل، قبل أن ندري أنّ مركز الزلزال كان على بعد نحو 160 كم عنّا ” كان الزلزال قد حدث في الجوار، في بلدة “ليجة” التركية (من أعمال ديار بكر) وقد تدمّرت بالكامل وذهب ضحيّتها 2311 شخصًا عن زلزال بقوة 6.7 ريختر، وما زلت أذكر حتّى الآن خالتي التي أمامي وقد تشبّثت بالأرض، وأصابها الهلع. لم تشركنا “الميديا” يومها بالصور، صور ليجة وضحاياها، وحكايات العالقين في الأنقاض، ولم تهتمّ الإذاعات كثيرًا بألفي ضحية، فقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية قد حجزت الخبر الأوّل في لندن ومونتكارلو وصوت أميركا. ولكنّي كنت يومذاك قرأت السندباد البحري، وحكايته يوم زلزلت أرض الجزيرة التي شووا فيها اللحم، فتبيّن أنها ظهر سمكة. نعم لقد لبطت الأرض ضحى ذلك السبت البعيد، ثمّ هدأت كي نحضّر فوقها فطور الصائمين.

البيت ثاني حروف العربية، والساميّات السابقة، وذلك لقربه من النفس، واحتفاءً بموطن الإنسان الجديد بعد المغارة والكهف. ولكنّ الثور هو حرف الشرق الأوّل (الألف). كان الثور أليفًا قبل أن يستشرس ويهدّ البيت، الشرق البعيد رسمه ضحيةَ الغابة الأوّل في كليلة ودمنة. كان شتربة (الثور) ودودًا طيبًا وشجاعًا، أيضًا قبل أن يطيحه الفاسدون، بذل “الواوي” دمنة جهدًا مضاعفًا كي يلقي به في “مهاوي الرّدى” كي ينقل إلينا الخبر العاجل: “جُرِح الأسد وهلك الثور”. الشرق الصوفيّ الشاعر تغنّى بـ(ـالألف) التي كانت الثور، الألف الرشيقة فارعة الطول التي لا تنحني. كانت مواقف عبد الجبار النفّري، قد ألهمت فنّاني الحروفيات كي يشدّوا وثاق الحروف بحبال ملوّنة، النفّري الذي هذى ذات رؤيا: “يا عبد، الحروف كلها مرضى إلا الألف، أما ترى كل حرف مائل، أما ترى الألف قائماً غير مائل، إنما المرض الميل للسقام فلا تمل”. الكتابة قيّد، ولكنّها عجزت عن توثيق الصور والأحلام وأصوات الفرح والفزع، والزلازل، صديقي الشاعر حكمة شافي الأسعد كتب “صوتان كنت أسمعهما في مدة الزلزال، لا أظن أنني سأنساهما: الصوت الغريب الذي كان يخرج من باطن الأرض، والذي لا أستطيع وصفه، لكن صوته في داخلي يشبه صوت الغضب المكبوت الذي لا يَسمعه ولا يفهمه غير صاحبه، والصوت الثاني هو صوت الجدران الذي يشبه صوت تكسير البسكويت”..

كانت زلزلة الساعة الرابعة فجر 6 فبراير 2023، قد حدّثت أخبارها: تهدّمت بيوت أنطاكيا ومرعش وجنديرس معظمها، ولقي نحو 50 ألفًا حتفهم (حتى الآن)، والعدد مرشّح للزيادة.

عاصر حافظ إبراهيم “صوت تكسير البسكويت” أو “لبطة السمكة” في مدينة ميسينا الإيطالية الصغيرة، فكتب قصيدة وضعتها المناهج على الهامش، ولكننا قرأناها، ولم يبق منها في الذاكرة غير عبارة: “ما لمسّين عوجلت في صباها”. تقع ميسينا في صقليّة، تمامًا على جلد الكرة المواجهة للقدم المتحفّزة دائمًا، النقطة التي ركلها الزلزال، بقوة 7,5 ريختر في الساعة 5:21 يوم 28 كانون الأول/ديسمبر عام 1908، ودمّرتها تمامًا، فأثّر ذلك في شاعر النيل:

ما لِمَسّينَ عوجِلَت في صِباها             وَدَعاها مِنَ الرَدى داعِيانِ

خُسِفَت ثُمَّ أُغرِقَت ثُمَّ بادَت                قُضِيَ الأَمرُ كُلُّهُ في ثَوانِ

وَأَتى أَمرُها فَأَضحَت كَأَن لَم               تَكُ بِالأَمسِ زينَةَ البُلدانِ

كان حافظ إبراهيم يرى في إيطاليا بلاد الحداثة المثلى، وكان متأكدًا من عودة ميسينا إلى الحياة:

إِنَّ إيطاليا بَنوها بُناةٌ                       فَاِطمَئِنّي ما دامَ في الحَيِّ باني

فَسَلامٌ عَلَيكِ يَومَ تَوَلَّي                     تِ بِما فيكِ مِن مَغانٍ حِسانِ

ولكنّ طمعًا “ألقى عن الغرب اللثام” ولم تصبر إيطاليا المنكوبة غير ثلاث سنوات لتجاري أختيها “فرنسا وإنكلترا” فاحتلت الشواطئ الليبية 29 سبتمبر 1911، وفوجئ حافظ إبراهيم بالبلاد التي تأسّى عليها قبل ثلاث، مشيرًا إلى زلزال ثورة المختار:

مادَتِ الأَرضُ بِنا حينَ اِنتَشَت             مِن دَمِ القَتلى حَلالاً وَحَراما

عَجِزَ الطُليانُ عَن أَبطالِنا                 فَأَعَلّوا مِن ذَرارينا الحُساما

الثورات زلازل، وكذلك الزلازل ثورات. كان فساد قارون يحتاج ثورة تهدّ بيته “فخسفنا به وبداره”، غير بعيدٍ عن فساد ثمود “فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها” وعن فساد قوم لوط: “فجعلنا عاليَها سافلَها”. الأرض تحتجّ وتنتفض، وتهتزّ، وتلبط مثل سمكة السندباد، وهي كما جاء في بعض التفاسير واقفة على قرن ثور، لا بدّ أن يغضب، الثور الذي بات “ألفًا” تسند البيت.

منذ اثنتي عشرة، يعيش السوريون زلزالهم الخاصّ، فاض الدم عن حاجة الثورة. دخل الثور البيت، ثمّ دخلت ثيران كثيرة، كانت الجدران قد تصدّعت بالفعل. معايرو الزلازل حدّدوا لها 10 درجات، لم ينلها أحد حتى الآن (9,2 ريختر زلزال ألاسكا 1964). ولكنّ السوريين أتمّوا اثنتي عشرة بمقياس السنين والأعوام والأخبار العاجلة والصواريخ والبراميل، قبل أن يفجأهم ويفجعهم زلزال آخر، لاحقهم في بلادهم وفي مناطق اللجوء، في عينتاب وأنطاكية وأورفه وحلب وجبلة وحماة. وكانت فرصة للبيت المتصدّع كي ينبني من جديد.

قال الزلزال كلمته الفصل، وكتب فصلًا جديدًا في الرواية السورية الطويلة.

 

سيريا مونيتور


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage