الرقة بوست – بالسوري الفصيح – مقالات رأي
الـثــــــــورة والـهـــدم والفــــــــوضــى الــخـــــلاقــــة
الهـدم والبناء ،مقـولة جـدليـّـة مفهــومة .فالهـدم نفـيٌ لـما هـو قائمٌ ،وهــو نفسـه ،حـين الـمســتقبـل يـرفض الـحــاضــر ،الـذي لـم يعـد قـادراً علـى احتــواء الـواقــع ،أوالتعـامـل معــه : الـمستقبل يأمـر بـهــدم الـحــاضر العــاجز والـمفـوّت جذرياً ،هــدمـاً يسـتحضـر الآتـي الـمنـاقض بـعمليـّـة النفـي لـمــا هـو قائم ،ذاهبـاً إلـى مـكــوَّن جــديد . فالهــدمُ إذاً ممــرّ الضـرورة الـتـي مـن دونها لا يسـتطيع الـماضي والـحـاضر تـجـاوز نفسيهمـا إلـى المسـتقبـل ،إلـى الـجـــديد ؛ لـذلك هـو يؤكــد معنيـهمـا إسـتيعاباً وتفهمـاً : سـلبـاً ونفيـاً ؛ كـي يصــير التشـكّل الـجــديد علـى أنقــاض ما كـان . … الـحــاضر ينـفي الـمـاضي لأنـّـه اسـتوعبه ،استهلكه ،وحـان تـجــاوزه ،الـحــاضر يـحـمـل فـي ذاته الـهــدم ،كان مسـتقبلاً لكـنّ صـيرورة التطــوّر لابـدّ أن تـجعلـه مـاضيـاَ : لا شـيء فـي هـذه الـحيــاة للأبــد . فهـل الهــدم يـخضــع لنظــرية ،أوقاعــدة ..؟ يعنـي هـل عنـدما نهـدم شـيئاً ،أو نتلفـه ،نفعـله بـخطــوات مدروسـة ومنتظمـة ،يـجـب تطبيقهــا .. ؟ لا أعتقــد جازمــاً ،بأن الهــدم يـمكــن أن يكــون منظّمــاً ومنضبطــاً ،بل هـو عمليـّـة قـوامهـا الفـوضى التـي لـن تكـون مفهـومة دون أن تـمـارس الـهـدم ،فهـي حـالة مـن اللاإنتظـام ،تفـرض نفسـها عنــد تـوقــف العــلم والعقــل عـن الـفهــم ،وتـدخـل فــي / و إلـى الزوال عـن طـريق الـتحــلّل ،الـذي تـصــير بـه وفيــه عمليـّـة الـتحــوّل .التـحـلل اللاواعـي واللامنتظم هـو : قــوام الفـوضى شكلها ومـحتواها ،وغالبـاً ماتكون غير مرئيـــة ،لأنّها التلاشــي ،فعنـدما تستهلك طاقة نفسها تكـوّن دفعـاً ذاتيـّـاً فـي الأعـاصـير والتيارات الـجارفـة . وتبلـغ ذروتهـا فـي ثــورة الشـعوب ،فهـي أقـرب إلـى الطفـرة الـمفهــومة نظــرياً ،وغيـر مقبــوض عليهـا عمليـاً . والطـفـرة هـي فرصـة حـركيـّـة ولـّدتها الظروف ،وغيــر متــوقعـة ،ولـكن يـُمكن إدراكهـا واستغلالها بعـد وجودها إلـى هــذا الـحــد أو ذاك .
الــثــــورة والفــــــــوضــى الــخـــــلاقــــة
لابـــدّ حــيـن نـتـكـلـّــم عــن الـفـــوضـى بـمـفهـــومهـا العــام ،أن يـحضـــر بقــوّة مـعـنــىً آخــر لـهــا ،خـاصٌ و معــروفٌ ومـتــداول في الأزمات والأحداث والثورات العربية بـإســم : الفـــوضـى الـخـــلاّقـة . هــذا الـمفهــوم للـفــوضـى الـذي رددتــه أمـريـكــا كثــيراً قـُبيـــل وبعــد الإحتـــلال للـعــراق . كـان ومـازال , بقصــد تـكـــوين شــرق أوســـط جـــديد ؛ صــارالـغــرب يـراه ضـــرورة لأســباب لا مـجــال لــذكــرهـا الآن . الـفـــرق بـين فـــوضـى عـفـــويـة ،وفـــوضــى خـــلاّقـة ،هــو : أنّ الأولــى تـحــدث دون أن نـعــرفَ زمـن حــدوثهـا ،ولا مـتـى تـكـــوّنت أسـبابهـا ،ودون أن نـتمكـّن مـن الـتــدخّل فـي مـجـــريات أمــورها ،كالكــوارث الطبيعيــة . أمّـا الثــانية أي الـخـــلاّقــة ،تـختـلـــف وتتـمــيـّز إلـى هــذا الـحــد أو ذاك عــن العفـــويـّـة ،بأنهـا مجتمعية مـُتـَعمـّـدةُ الأســباب ،ويـمكننـا أن نتـفـاعل معـهــا ،أو نفعــل بهـا وفيهـا شريطة التدخل في أسبابها أو فهمها . إذاً أن الـفــوضـى الـخـــلاّاقــة هــذه ،هـي فـــوضـى متعمـّـدة الأحــداث , ويكــون ذلــك بتـوفيــر أسبابها ،والتهيئة والتمهيـد لها ،يطمـح الـمجتـمــع والـفــرد ،أن ينتـقــل بـواســطتهـا إلـى حــالـة اجتماعية ــــ إنســانيـّـة جـديـدة . لكن لا يـمكن تـحـديد بدايتها أو نقطــة مكانها ،أو حالة نهايتها ،إنـما يـمكننـا التفــاعـل معهـا ،ووضــع بـصـمــة تـأثـيــرنـا فيهــا ،وعليهــا ،مـن خــلال توجيــه وتــدويــر بعضـاً مـن زوايــاها .الكــون قـد خُـلــق مـن فــوضى ،وأن اللـه ،عــزّ وجـــلّ ،قــد اختــار الفــوضى لـيخلــق منـها الكـون ،هــذا مـا يعتـقـده الأب “ديف فليمنج” ،وأضــاف : لـم نفهـم كيــف حـدث ذلك ،لكننـا متأكـدون أن الفوضى كانت ضـرورة مهمـّـة فـي عمليـّـة الـخلــق .أمـّـا عــالـم النـفـــس “مارتن كروزرز” قــد أكّــد أنّ الفــوضى هـي إحـدى العــوامل الـمهـمـّـة فـي علـم العلاج النفـسي ،عنــدما يـدخـل الإنسـان الفـوضى ،ســيفقد توازنـه ،ويـخــرج مـن سـيطرتـــه علـى وعيـه الـذي يـحتـوي مفاهيمــه الـقـــديـمـــة ،والتي تشـكل ضـوابطه الإجتماعية والفكرية أي : عقلـه الواعـي فـي إطــار الـواجــب الأخـــلاقـي والفـكــري الإجتـمــاعــي القــائـم ،حينهـا يـمكـن أن يـحــدِث اللامعقول . حيـث يـتمكـّـن مـن تكـوين هـوية جـديدة ،بقيــم ومفاهيــم حـديثـة , . الـقــديـم ليــس هــو مـن يفـــرض الـجــــديد ،بــل ضـرورة واسـتحقاق تـــدمـيره أوّلاً ،وكــلّ شيء يـحمــل نـزعــة فنــائه ثانيـاً . وفي كتابه عن “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” يقول عالم الاقتصاد شامبيتر: (ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد،بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك،معتبرًا المنافسة الهدامة تدميراً يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة…) واقع النــاس هــو حيــاتهم بكل مافيها ،خبــزهم وماؤهم وأحــلامهم ورغبـاتهم ،ونتيجـة هــذا ،كان وسيكون الواقع فـي تطــور مستمر . دائمـاً إذاً هنــاك نــزعــة تـلازم الإنسان ،قائـمـة بـين مـا حققـه مـاضيـاً وبين ما يبتغيــه مستقبــلاً ،هــذه النـزعـة يسـمونهـا فلسفياً “فجـوة الإسـتقرار” وهـي الـمنطقـة الةي تسكنها تلـك النـزعـة الـمبــاركة ،فبقـدر ما تتسع تلك الفجــوة بقــدر مـا يتســع الإحبـاط وروح الـتمــرّد فـي الـمجتمــع ،وفــي ظـل الإسـتبـداد يتصـاعد ذلـك الإحتقـان شيئاً فشيئاً حـتّى يصـل إلـى فــوهته . ولكي لا ينفجـر يـلتـفّ الـطــاغـي الـحــاكـم حــوله بإصــلاح سـياسي بـقـصــد اســتيعاب قلــق وقهــر الـحــال . أمـّـا إذا كـان الـمجتمـع محكــوماً بـفـرديـّـة مطلقـة وصـمــّــاء كـمــا هــو فــي الديكـتــاتوريـّـة التـي حـكمـت ســـوريا منــذ بـدايــة السـتينـات إلـى الآن , سـيكون مـن الصعــب الإســتمرار وتـمــرير الإحتيـالات الاٍجــرائيـة الـتـي حاولت وتـحـــاول أن تـمتـصّ غضــب النــاس ،مـمّا يـعطـي إسـتعـداداً وتـمهيــداً لقيــام الفــوضى الـتـي سـتؤدي فـي النهـاية ،إلـى مفـاجآت لـم يتـوقعهـا أحــدٌ . لم يكن شعار الشعب السوري : { ياالله مالنا غيرك ياالله } إلا تعبيراً حقيقياً عن شعوره بالغربة , حيث أمضى عمراً معزولاً بين عنجهيتين : عنجهية الإستبداد الحاكم من جهة , وبين عنجهية آيديولوجيات المعارضة ذات اللغة المتبرجة بألسنة غريبة وأشكال إستعلائية . ذاك يمارس القمع والقهر , وتلك تتعالى وتضطهد الناس بادعائها الثقافي وتميزها النوعي { الكهنوتي } عن العامة . إن حال الثورة اثبت أن الديكتاتورية الحاكمة كانت وماتزال تفهم حال المجتمع السوري اكثر بما لايقاس من المعارضة السورية , بدليل إمكانية تدخلها الناجحة في الإساءة إليها , والقدرة على استثمار { الفوضى } التي سوف تكون في أية ثورة تقوم , بينما المعارضة بقيت مذهولة بما يجري واكتفت الى الآن باتهام سلطة آلـ الأسد على نشر {هذه الفوضى } من اجل تحقيق غاية تلويث الثورة وتشويهها . لكن الدم السوري الغزير والمقدس سوف يكون قادراً ووحده على قهر أكبر ديكتاتوريات العصر وأوحشها , وسوف يعلّم كل الأفكار وكل العقول أن الشعب هو الفيلسوف الأكثر إرادة وفهماً للحياة والإنسان ….