الرقة بوست ـ مقالات
معبد الحسون
المكان ، في التشكل الأول لمفهوم الوطن في خامة العقل الأولى للعربي منذ ماقبل الإسلام ، لم يكن هو ركن(الوطن)الأول الذي يقوم عليه كامل المفهوم في الذهنية العامة ويتأصَّل، بل لقد تشارك المكان مع الكلأ..أي عشب المرعى لأغنامه وجِمَاله..فكان الكلأ،بوصفه رديف لقمة العيش ولزيمها الأساسي ، والذي كان التساهلُ في البحث عنه دوماً يعني التساهلَ في الحياة نفسها ، يتقدم على الحاجة إلى المكان..مما يقسرُهُ ويُضْطرُّه إلى التنازل عن المكان ـ إذا ما اقتضته الضرورة تحت ضغط الاختيار بينهما ـ لصالح البحث عن العشب والمرعى ، أي انتجاع الكلأ..إن كلأ المرعى الذي هو فرصة العيش المبذولة تحت شرط التعب والتنقل الدائب والمستمر، هوالأكثر إتاحة لاستمرارالحياة،فهو ليس أول الحاجات الأساسية فحسب،بل هومادة التفاوض بين الحياة والهلاك الحتمي..
من هنا كان المكان هو وعاء الإقامة ـ المؤقتة في الغالب ـ والذي يُشبِعُ الروحَ والعقل بالعلاقات الإجتماعية الطارئة أوالدائمة ، ويغذي غريزة التواصل مع أقرباء وأصدقاء وأحباب ، ويُتيحُ استفراغ كلِّ الطاقات والإمكانات الفردية الكامنة في الفرد لصالح المكان،أوالعكس..امتصاص ماينطوي عليه المكان من علاقة:تجارة ، علوم ، طقوس دينية ، ثقافات متنوعة وفنون ، مفاخر ومخازي ، علاقات اجتماعية مختلفة من زواج وإصهار وارتباطات مختلفة من أخذ وترك..إن المكان هو وعاء قائم على تبادليتين :الأخذ والمناولة من جهة ، والتلقي من جهة أخرى ، ولهذا كان شغف الوجدان به وارتباط العاطفة والعقل أكثر صميمية إنسانية من قرينه الملازم له:أعني انتجاع الكلأ،والذي هو قرين طلب الرزق اليوم..من هنا تنشأ العلاقة بين التوأمين بوصفها علاقة ضدية بين سَلُوبٍ نحتاجه حاجة عضوية لاغنى عنها، كالطعام والشراب،وإيجابٍ نحتاجه بوصفه حاجة اجتماعية تلبي عطش الاجتماع لدى المرء،وانسياقاته المتراكبة على بعضها والمتوالدة من بعضها..لن نكون بحاجة إلى الاستشهاد بالكثيرمن الأمثلة..يكفينا فقط أن نتذكر في الماضي ذلك الشاعرالجاهلي القديم،الذي خلَّده العرب ورفعوه إلى مصاف أصحاب المعلقات الخالدة:عُبيد بن الأبرص..والذي يستهل معلقته بذكر تسعة أماكن في بيتين ونصف من الشعر..
أقفرَمن أهله (مَلْحوبُ) = فـ (القُطَـبياتُ ) فـ (الذَنُوبُ)
فـ (راكسٌ) فـ (ثُعَيلِباتٌ)= فـ (ذاتُ فِرقينِ) فـ (القليبُ)
فـ (عَردةٌ ) فـ (قفا حِبْرٍ)= ………………………..
وحين ألجأته الحاجة والضرورة الشعرية إلى أن يتممَ البيت بغيراسم مكانٍ حبيبٍ إلى قلبه،قفل خاتمة البيت بحشوةٍ متممة واضطرارية،بقوله:ليس بها منهمُ عُريبُ ..
المرويات والسرديات تمرعبرخطوط الذكريات التي يحملها السوري اليوم،مثلما يحمل الوطن معه أينما حلَّ أوترحل،وكلما انتجع الكلأ بحثاً عن لقمة العيش ونجا بنفسه من الموت،وابتداءاً من دمشق وغوطتيها،مروراً بحمص وحماة وحلب والرقة ودير الزور والحسكة..والتي يحملها معه بين ضلوعه ، شأنها شأن حقيبة السفر.. وبين خيط(العود الأبدي الدائم للأشياء)الذي حدثنا عنه الفيلسوف الألماني”نيتشه”،دون أن نفقه كثيراً وقتها ماذا كان يعني بـ”عوده الأبدي”،ثمة متلازمة تُحيل ذلك الطَرْقَ المستمرعلى سمت خطٍ حبيبٍ يبتدىءُ من دمشق وينتهي بالحسكة،إلى متلازمة جديدة ، تبدأ من شواطىء أزميرالتركية وصولاً نحو اليونان فمقدونيا فصربيا فألمانيا ، وصولاً إلى هولاندا والسويد،وانسياحاً في أجزاء القارة الأوربية ومدنِها وأجزائها المكانية..مستعيضة عن مكان بمكان،وبصورة استفزازية تُحيل الصور اللاشعورية التي كانت في الماضي:ملحوبَ والقطبياتِ والذنوبَ وراكسَ وثعيلباتٍ وذاتَ فرقين والقليب إحالةً تستبدلها في الشعورالمباشربدمشق وحمص وحماة والقلمون وحلب وإدلب وسهل الغاب والقلمون ومدن خط الفرات والشمال،بمدن جديدة وأماكن جديدة سوف نتعرف عليها،على رغبة منا أوكراهة،بحيث سنسمع ونتعرف على هامبورغ وهانوفر وسالسبورغ وفيينا وأمستردام وغيرها من المدن و(الأماكن) الأخرى..
قلتُ بأن العلاقة بين المكان وانتجاع الكلأ هي علاقة تقوم على الضدية،فبينما تنتهي الحاجة إلى الكلأ والمرعى،وبالتالي إلى الطعام والشراب،كأية حاجة عضوية لحظية،عند الحَمَّام والخلاء..تستمرالضرورة الحياتية التي يحملها المكان بسبب تراكم الخبرات وتشعب العلاقات،وتجدد العاطفة والمعتقدات والقناعات،وكلِّ مكتنزات الوعي وتراكم خبراته القديمة والجديدة ، السالفة والآنفة..إن المكان هو خزانة الحضارة ومستودعها ، وبما أنه هو الذي يؤمن ويعطي “لقمة العيش” ويوفر(كَلأ المرعى)..حتى إذا ما امتنع أو قَصَّرَ أوأحجم عن العطاء تماماً أوتحوَّل إلى جحيم حياتي تركناه إلى مكان آخر،فهو إذن يلعب الدورين المتضادين في وقت واحد، ولكن ليس في الصورة التراتبية،بل بالصورة التعويضية..أي إن الضدين المتنافسين:حاجتنا الحضارية الشاملة إلى المكان،وحاجتنا اللحظية العضوية(والتي يشترك فيها الإنسانُ والحيوانُ)إلى الطعام والمرعى،أي انتجاع الكلأ،يُعَوِضُ كلٌّ منهما الآخر بنقصه..وهكذا لايقومُ التنافس بينهما على مبدأ إزاحة الآخرواستئصاله من الوجود،بل بالعكس،إنما يقوم على تعويضِ غريمِهِ واستكماله..بحيث يستمران في الوجودِ معاً كأي غريمين أوضدين لاوجود لأحدهما إلا باستمرارالآخر..
المكانُ يحددُ الكونَ ويجعلُهُ قابلاً للتعريف،فهو لم يعد فراغاَ مخيفاً لا اسم له ، بل يقسمه إلى أجزاء ، ويعطي لكل جزء تسميته الخاصة به ، فتغدو الصحراء الكبرى المُتألِّفة من كثبان رملية هائلة وواسعة تمتد أمام النظرلآلاف الكيلومترات،تغدو(الدَّخول)و(حَومل)التي نبكي فيها وعليها من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ أقام ذات زمن بينهما ، حيث تنشطرالصحراء إلى أماكنها،أومسمياتها،مثلما ينشطرالعالم الواسع اليوم إلى عدد غيرحصري من الجزئيات والمسميات التي تُسَمَّى بلداتٍ ومدناً وتُشَكّلُ دولاً ..لاتبدأ بدمشق ولاتنتهي ببرلين..حيث يبدأ دورالخبرة الإنسانية في إعادة فرزمستحقات مفهوم الوطن وإعادة تقييمها والبدء بتصنيفها من جديد..وهذه عملية تقويمية عقلية ونفسية جديدة،قد تنتهي عند البعض إلى أن يُعَوِّمَ موطن المكان الجديد،وموطن انتجاع الكلأ الجديد ليصبح هو(الوطنَ الجديد)،بينما يُصرُّالبعض الآخربعنادٍ على أن المكان القديم وموطنَ انتجاع الكلأ الثابت في الماضي هو وطنُهُ الثابتُ الذي لاتنازل عنه ولامزحل..وتبدأ المقاومة العنيدة بين ضدين متجاذبين،في حدود الحسرة الوجودية للوصول إلى حلٍ ينهي ضدية الصراع الأبدي،كما يصفه عنترة العبسي:
كيف المزارُوقد تربعَ أهلُها = بـ (عُنَيزتَينِ)..وأهلُنا بـ (الغَيلمِ)؟
والتي لاتصلُ إلى نهاية ذلك الصراع ولا تنتهي عند غاياتٍ تختصرُالتصارعية وتُذَوِّبُ الضدية في(وطنٍ نهائيٍّ وأخير)،يجمع المكان ومنتجع الكلأ في وطنٍ واحدٍ ونهائيٍ..للمرة الأخيرة وإلى الأبد..