نبل والزهراء قريتان صغيرتان جداً في وسط الجغرافيا الحلبية الكبيرة الواسعة مكاناً وسكاناً، أهلوهما عاشوا أجيالاً في هذا الوسط الريفي السُنّي القريب من المدينة، والذي هو ـ بالمناسبة ـ يختلف شكلاً وبنية عن الريف الأبعد. تبعدا بضعة كيلو مترات شمالي حلب ابتداءاً من دوار الليرمون الذي يشكل نقطة تحديدية في محيط دائرة المدينة؛ ولم يعرف أهلوهما ثقافة أو ارتباطاً خارج وسطهما هذا. ومن المؤكد أن النظام قد حاول عبر عقود أن يميزهما عن الوسط الريفي الكثيف الذي يحيط حولهما عن طريق بذل امتيازات وتحسينات بلدية وإدارية وغيرها، وأن “يُدَلِّلَ” ويغري الطبيعة القروية الجافية فيهما، وهذه ليست عادة مقصورة للنظام عليهما فقط، بل إنه دأب على هذه السلوكية الممايزة بين السوريين في كل مكان، ففي أية قرية مسيحية صغيرة كان أحياناً يتعامل معها بسياسة “التدليل المتعمد” أو”الإهمال المتعمد”، حسب درجة الطواعية والوفاء له، وأحياناً كان يسلك نفس المسلك تجاه قرى سنية وقرى علوية، بل وأحياء داخل المدن تكاد تمتاز بالمعاملة عن أحياء أخرى، وعشائر دون عشائر..وهكذا..فمبدأ الابن الضال والابن المطيع والابن العاق والابن الأثير بالامتيازات والمحروم من الميراث هو مبدأ قديم جديد، وربما يعود إلى زمن الأسد الأب منذ أن استولى على السلطة، وليس في هذا أي جديد أو أي غرابة..
الجديد والغريب حقاً هو استجابتنا نحن السوريين للطرائق الترميزية والنفش الطائفي التمييزي التي حاول أن يبعث فيها ثقافة ساذجة وقديمة ذابت في قاع التاريخ منذ قرون ودهور..ثقافة كانت تتلازم فيها تلك الترميزية للمدن والأماكن حسب ما يتسع المعنى الطائفي والحزبي السياسي لتذويبه في مسمى مدينة أو إقليم، فكما درجت الثقافة القديمة التي كانت ترتد إلى جذر سطحي وبدائي، بأن أهل الشام كلهم، قلوبهم وسيوفهم، مع الأمويين، وأن أهل مكة زبيرو الهوى والسمت والولاء(نسبة إلى عبد الله بن الزبير)، وأهل خوزستان والري خوارج، وأهل الكوفة كلهم ذوو ولاء لعلي وشيعته، وأهل المدينة ولاؤهم قرشي مع طلحة والزبير..وهكذا ..في هذا المتسع الذي يقرأ ولاءً سياسياً من خلال جغرافيا، حتى لو كانت جغرافيا صغيرة وبسيطة وغير نشطة أو فاعلة أو مؤثرة في عمق الحدث، فإنه يمكن البناء على أن هذا الحفر المستمر قد يُحَوِّل الرمزـ الوهم إلى حقيقة، ويبعث من خلال تجريد الأشياء، عبرالنقر والحفرالمتواصل عليها، شيئاً مجسداً وحقيقياً، لا يكاد يشبه مرموزاته ولا تجريداته التي أثقلت بمعاني لا تحتملها ولا تكاد تسوغها أصلاً..
ومع إدراكنا أيضاً بأن النظام نفسه بطائفيته البغيضة لا ينتمي واقعاً إلى الشيعة طائفياً، تم البناء منذ وقت مبكرعلى أن سكان هاتين القريتين هم رمز التشيع، وهذا غير صحيح بأي معنى من المعاني باستثناء أن أهاليهما هم فعلاً شيعة بالولادة، لابالثقافة ولا بالتبني ولا بأي سلوك يمكن أن يعطي إمكانية للقريتين الصغيرتين المحاطتين بأكثر من خمسين قرية سنية، والغارقتين وسط هذا المحيط الذي يشبههما منذ عقود طويل دون أن تجدا أو يجد أيٌّ من جوارهما مشكلة ما في هذا التجاور..تم الاشتغال إذن وتطوير المعنى بحيث أصبحت نبل والزهراء(رموزاً) من رموزالتشيع، وقواعد “للباطنية”، و(قلاعاً) من قلاع الربط والولاء للنظام ولإيران، وتالياً لروسيا، ولقد فرح النظام أيما فرحٍ بهذا النجاح الميسور المستسهل، فجلب شبيحته وقواته وراح يضخ الصور والفيديوهات التي ترسخ معنى الولاء ـ بالمعنى الطائفي الذي فصَّله هو، والذي أراده على قياس حركته ـ بحيث أصبحت نبل والزهراء خراسان العباسية الجديدة التي تضخ جيوش أبي مسلم الخراساني الواعدة باقتلاع سلطان بني أمية..وحتى أُقَرِّبَ الفكرة أكثر للقارىء الذي لا يعرف حلب كثيراً، سأذكره بأن دوار الشعار الذي يشكل صلة الوصل بين مجموعة من الأحياء الحلبية الكبيرة: قارلق وطريق الباب والقاطرجي والحلوانية وباب النيرب والميسر..هذا الدوار الذي يساوي نقطة في دائرة من تلك الأحياء، ربما كان عدد سكانه ليلاً أو نهاراً عشرات أضعاف سكان نبل، وعشرات أضعاف سكان الزهراء..ولعل90% بالمائة من سكان القريتين عاشوا سنين طويلة وهم باعة فيه أومشترون منه أو بغيره من تلك الأحياء الشعبية..ولم تستطع ثقافة التمييز التي اجتهد النظام عقوداً على أن تفكك الروابط والمحتوى بين سكانهما وبين الوسط المحيط..ما أريد الوصول إليه إننا نتعاون ونستجيب، بغباء ويسر وسهولة، مع أية حالة تنميطية للأفكارالمسبقة التي يخطط لها النظام وطبقة من الإعلاميين والمثقفين الصفيقي الوجوه، والمتحللين من أي حرج وطني أومسؤولية حتى في معرفة الأشياء على حقيقتها ..الأمر الذي حدا بمثقف “شيعي” نخبوي، وذي مركز وسمعة مرموقة بأن يصرح بأن سوريا الجديدة لن تولد حتى يتصل الجيش السوري الممانع والمجابه للمؤامرة مع أخيه الجيش العراقي، حامل راية الثورة الحسينية ضد الظلم، وحتى يلتقيان على أرض نبل والزهراء، وكأن نبل والزهراء ليستا جزءاً من سوريا، وسكانهما ليسوا سوريين أصلاً، وكأني بسائل من عالم الغيب يسأل: إذن لماذا قمتم بهذه الثورة أصلاً أيها السوريون..؟ وكأني أجيبه: لقد قمنا بهذه الثورة ياصديقي لكي نحتل نبل والزهراء، ونقتل سكانهما الشيعة، وندمرهما على رؤوس سكانهما..وياللهول..وكأني أيضاً ألمح صائحاً يصيح: لن ينتصر الإسلام أوترفع له راية حتى تصل الجيوش الخراسانية العباسية وعلى رأسها أبومسلم الخراساني، فتقتلع ملك بني أمية وترفرف على بوابات دمشق..إلا الحماقة .. فقد أعيت من يداويها، ومن يتداوى بها أيضاً، ومن لا يستشعر السرور إلا بالترويج لها وبثها بين الناس .
15/2/2016