معبد الحسون: خاص بـ “الرقة بوست”
طبقات النخب السورية
في حقبة وصول البعث عموماً إلى رأس السلطة، وحقبة الأسدين، الأب والابن، تم تذويبُ النخب السورية وإعادة صهرها في قالب النظام الأمني، فأصبح العالِمُ والأديب والمفكر والفنان والقاص والروائي والشاعر والممثل والمخرج السينمائي والمسرحي والمبدع والصحفي، والشيخ رجل الدين المؤثر، والعالم الفقيه، والداعية الديني المشتهر، وشيخ العشيرة أوحامل اسمها بجدارة أم بدسيسة وغفلة منها..كل ذلك صار بفضل مركزية الدولة الأمنية ودورها في صناعة النخب ،أو تسامح السلطات المخابراتية لتلك النخب بالظهور، وبالمقدارالمقرَر والمحسوب بـ”بارومتر” السلطة وأجهزتها، فلا يظهر في سوريا اسمٌ متقدم أومعروفٌ بكونه ينتمي إلى نخبة من النخب، إلا بإرادة من تلك السلطة، أوبجزء من إرادتها إن توخينا دقة التعبير.
يمكنُ وصفَ طبقاتِ النخب السورية وصفاً خارجياً، بأنها لاتمتاز بتركيب متحصل من “فوق” لـ”تحت”، بل لعل الأصرحَ وصفاً أنها طبقات ممتدة على شكل دائري متماوج، كاسرٍ للإتجاهات، ولمبدأ الـ”فوق والتحت”. إنها متراكبة حسب الظروف التي أنتجتها في الماضي ومتشاطئة معها، أو تلك التي يمكن أن تنتجَها في المستقبل، وفي الأعم الأغلب تشترط النخب السورية على الوطن، وعلى سائر قضايا الشأن العام شروطاً مسكوتاً عنها ،شروطاً عرفية تقررها النوايا المسبقة لا الكلام المُصَرَّحُ به، والجهر المشتهر، ولكنها شروط متضمَّنة في تضاريس العقد وطبيعته، فيما بينها وبين جمهورها أو قضاياها المتبناة.
شروط النخب السورية الصامتة، والمسكوت عنها عادة، هي امتيازاتُها الخاصة بها: (المكانة والاستئثار)، (الراتب والدخل المضمون)، (الشهرة المتحققة) مع ما تعتقده هي من أهميتها الخاصة والمميزة لها عن جمهورالعامة وبقية افراد الشعب، وكذلك مردفاً معها(ضمانات معينة) للفئة القليلة المحيطة بها من أصدقاء أو أقرباء أوأبناء عشيرة وفئة محيطة من ذوي الصداقات الشخصية والقربى..ويمكن القول إن هذه الشروط غالباً ماتكون قابلة للتفاوض والتسويات والمعايرة حسب طبيعة العقد المبرم بينها وبين شعبها أو بين عامة الناس..إذن هذه الحزمة المشروطة قد تكون مطلوبة كحزمة واحدة غيرخاضعة للتفكيك أو المفاضلة، وقد تخضع ـ حسب ظروفها ـ لأولويات وتنازلات، كما أن الطبقات العليا في النخب السورية مستعدة للتفاوض على مبدأ التنازل والنزول من”مراتب طبقاتها العليا “، إلى مراتب طبقات نخبوية دنيا ،ما دام كلُّ شيءٍ له قابلية التفاوض على الشروط السابقة، لكن الشرط على الشرط، إن صح هذا التعبير، أن النخبة السورية، بطبقاتها المتراتبة والمتراكبة، والذي لا تقبل المساومة فيه أوالتفاوض في أية تسويات قد تمسه، هو أن تحتفظ بمسافتها الخاصة بها، والضامنة ما بينها وبين جمهورها، وهي حين ستفقد هذه المسافة المجعولة جعلاً مباشراً وافتراضياً بينها وبين عامة ناسها، والمُعَرِّفة أساساً لها ولنخبويتها، فإنها بذلك تكون قد فقدت شرطَ وجودِها الحقيقي.
لا يعني هذا التأمل المستطلع أن النخب السورية لا قضية لها، فالشعب السوري كله من حيث المبدأ بات يمتلك قضية ما وبطريقة من الطرق، بيد أن العقل الذي يحكم أواليات كل توجه نخبوي يرتد مبتدأُه إلى ميكانيزم قديم الآلة والتصور؛ ذلك العقل الذي يقوم على مبدأ الغنيمة اولاً..أوعلى مبدأ الجماعة أولاً أيضاً..والذي يجعل النخبوية سابقة على القضية اشتراطاً.
بعد الثورة تغيرالحال كثيراً، وتفصلت خرائط مجتمعية جديدة، فقد أطاحت الثورة بالنخب أيما إطاحة، وأحياناً تمَّ التطويحُ بمجاميعَ كثيرة من تلك النخب بطرق فظة، وابتلعت الثورة السورية جزءاً كبيراً من القوم ابتلاعاً مفاجئاً، وكما تبتلع أفعى الكوبرا كائنات صغيرة، وسبرت هشاشة البناء القوامي الذي أشادت تلك النخبُ واقعَها على أرضيته، ولقد حاولت كثيرٌ من تلك الطبقات النخبوية أن تلحق بالثورة، وأن تحتفظ ـ جزئياً أو كلياً ـ بهويتها النخبوية فيها ومن خلالها، وحالف مقدار ضئيل العدد بعض النجاح في ذلك، وهذا أمر طبيعي جداً، وله أسبابه..غير أنه في غالب الحالات تمَّ إلقاء كميات كبرى من تلك النخب على هامش الأحداث وفي قعرها، ووجدت النخب، بكل طبقاتها، نفسها أمام واقع جديد غيرمألوف، ولم تكن قد وطَّنت نفسها للتعايش معه أو للمزاحمة فيه..تغيرت بعض الاشتراطات النخبوية قليلاً أو كثيراً، وانضافت إليها شروطٌ جديدة..فقد ألفت نفسها أمام جموعٍ غفيرة وجديدة من “العامة” قد صعدت لأول مرة، واحتلت مكانة نخبوية لها بجدارة أو بدون جدارة، كما أصبح المقاتلون والمشاركون في واقع الحرب صنفاً جديداً من النخبويين الذين راحوا يزاحمون المدنيين، ويستأثرون بما لهم من مكانة، وربما يبزُّوها تفوقاً نخبوياً في مواطن كثيرة..حتى إنه ليصح القول بأن بعض قادة الكتائب والألوية، باتوا نُخباً جديدة وذوي شهرة لم تكن للممثلين والشعراء والسياسيين النجوميين..
شَرَطَ النظامُ على أنصاره ومؤيديه أن يكون هو سقف نخبويتهم، إذا ما اختاروا أن يظلوا نخباً على سيرتهم الأولى، أو أن يصيروا نخباً جديدة..كما اشترطت داعش على جميع رعاياها في المناطق التي استولت عليها ـ والنصرة وبقية الفصائل المسلحة الأخرى بدرجات أقل، وعلى تفاوت ـ أن تكون هي سقف نخبويتهم أيضاً..أما الدول المتدخلة في الشأن السوري، إقليمياً وعالمياً، فقد اشترطت هي أيضاً على جميع السوريين، أن تكون كلُّ دولة منها على حدة سقف النخبوية لكل من يريد أن يكون سورياً جيداً، أومنتمياً إلى نوادي النخبة الجيدة..أما النخب التي آثرت اللجوء إلى مواطن اللجوء الجديدة، وخاصة دول الإتحاد الأوربي، فقد خلعت إزار نخبويتها قبل الحدود المقدونية، ومنذ أن تدرَّعت بثوب العوم المطاطي الذي يشترط المهربون ارتداءه قبل الصعود إلى البلم في بحر ايجة.
تشبه النخب السورية ظروفها الموضوعية أكثرمن أي شيء آخر، بل إنها هي ظروفها ذاتها لو أمكن أن تتحول الظروف إلى كائنات آدمية، وكلما تغير واقع تلك الظروف اضطُرت تلك النخبُ إلى أن تبيع، أو تهدر جزءاً من خصائصها الجوهرية ومفرداتها المميزة لصالح الشروط الجديدة والمتحولة، وهي دائماً تعيش قلقها الخاص بها(قلقها النخبوي بالأصح)، وتكابد على الدوام من عدم التساكن مع أرض صلبة يفتقرإليها الواقع السوري الذي لايثبت على حال، وتتنازل طبقات نخبها العليا دائماً مكرهةً لصالح طبقاتها الأدنى، فيما يشبه المعاونة والتعاوض فيما بينها، وهي مستغرقة في هُجاس الصفاء وهوس الاصطفاء، مذعورةً أشد الذعرمن أن تلقي بها التحولات، والواقع الموضوعي السريع التشكل والتبدل، على قارعة من قارعات طريق “العامة”، حيث لامجال متاحاً بعدُ للعودة إلى أية ميزة نخبوية ممكنة..
في الواقع الجديد، بات على النخب القديمة أن تتقبل، لا العامة فحسب(بوصفهم طبعة النخب الجديدة التي أفرزتها الحرب)، بل وأن تتشارك الأدوار النخبوية مع شرائح مجتمعية كانت تُصنَّف في السابق فيما دون مستوى العامة، وتلحق بالهامشيين والحثالات المجتمعية..ولكنها مشاركة بشروط قسرية جديدة، شروط تعيد إنتاج الطبقات المفترضة، وتعمل على تشكلها وفق واقعها الجديد، وفي حدود صدورات العقل القديم المحكوم بشروطه السابقة، والتي ظلت النخب القديمة ـ بعد أن ارتضت التشارك مع النخب الجديدة ـ مستلَبة له ولمبدأه القديم: مبدأ العقل المرتهِن والمستلَب بفكرة “الغنيمة”، ولفكرة الإستفادة من العمل في الشأن العام، أومبدأ اتصال فيض الفائدة ذاك بالعائدية للجماعة أو للقبيلة أو للحزب أو للطائفة أو للإثنية القومية أو للعشيرة أو للعائلة الصغيرة أو للصحبة المباشرة.