معبد الحسون – خاص (الرقة بوست):
فكرتُ في أن أجد تعريفاً خاصاً بالنكتة، جواباً على السؤال الطبيعي والمشروع: ماهي النكتة؟ فوجدتُ بأنَّ أنسب تعريفٍ لها هي أنها استكشاف مكثف يتناول المادة الموضوعية الواقعية وجانبها الحُلمي الرؤيوي في مزجٍ اضطراريٍ يهدف إلى الخروج من حالةِ اختناقٍ أو استعصاءٍ موضوعي..استعصاءٍ بات يتعذر التعبيرُعنه بوسائلَ وأدواتٍ طبيعية.
ليست النكتة إذن سلوكاً من صنع العقل وحده أو الوعي المحض، ولاهي تنتمي إلى نهايات لاشعورية مباشرة، وإن كانت تستقي جزءاً من مادتها من اللاشعور القريب والملامس للوعي..فلها ميزة مزدوجة في التشاركية بين(الذات)و(الموضوع)، وبين الوعي وعمقه اللاشعوري، فهل النكتة هي موهبة خاصة في الطرافة دائماً، أوهي مقدرة مميزة على الإستظراف.؟ أعتقد أن الجواب بالنفي هوالأصح، وإن كانت ملكة الموهبة في مُطْلِقِها هي إحدى شروطها، موضوع النكتة وتجلياتها هو شيء أبعد من الموهبة الخاصة والملكة المميزة في ابتكارالطرافة القادحة والباعثة على التبسم أوالضحك..إن النكتة غالباً ماتكون بنت موضوعها أكثر مما هي ملك مطلقها أومبتكرها ـ أو مُنَكِّتِها ـ فهي بهذا تؤدي دوراً وظيفياً في التوصيل ربما يقصُرعنه الشرح العادي أوالسرد البارد والخالي من عنصرها الفكاهي، أوجانب من ذلك اللامعقول الذي تنطوي عليه.
النكتة إذن، وكما يراها فرويد، تُرضي غريزة من الغرائز المطوية أوالمختنقة أو المكبوتة، وتزيح عائقاً من العوائق من على الطريق. ففي أجواء الاستعصاء والاختناق قد تحتاج إلى مساحة من المعنى والتعبير يتعذراحتلالها بكلام عادي. يقاس إذن واقع حياة السوريين، داخل سوريا أوخارجها، في المعتقلات أو تحت القصف وأعمال القتال والإبادة التي تُشَنُّ عليهم يومياً، قياساً على تنويعات الحياة المختلفة والمتخالفة، مابين قوى “محررة” وقوى “محتلة”، ومسلحين يرغمون السكان على طرائق عيش متباينة وغير مألوفة أحياناً، كذلك واقع الحياة القسرية المفروضة في ظل النظام أو داعش أو قوات الـ pyd او باقي الميليشيات المختلفة، وأحياناً في أجواء التعايش القسري مع اللجوء وعبورالحدود، وأنواع مختلفة من التشرد والبؤس النوعي غيرالمألوف وغير المتوقع لغالب السكان المدنيين.
النكتة في مثل هذه الاحوال والظروف المفروضة فرضاً، تهدف بالمعنى العملي إلى توصيل فكرة حكيمة، حكيمة بقدرما تنطوي عليه من الإرتجال والإنعتاق من صرامة الواقع وتخشبه، وتنطوي حكمتُها على ناتج أومؤدى غير مفحوص أومحاكم، بل وليس مطالباً بذلك، والغرض منها إما إهانةُ جزءٍ من الواقع أو الرد على إهانةٍ مصدرها ذلك الواقع..وفي مثال الواقع السوري تطول النكتة العامل الخارجي بسلاحها مثلما تطول الواقع الداخلي المعاش، وذلك رداً على السياسات الدولية والتدخلات الفظة والتصريحات الوقحة الصادرة من هذا الطرف الدولي أو ذاك، ومن هذه الجهة الدبلوماسية أو الإعلامية المتكيفة مع تلك التصريحات أوتلك، والتي باتت مألوفة ويومية في حياة السوريين. فالنكتة في هذا المجال تحتكم إلى الممارسة السياسية بنزع الطلاء الزائف للهيبة الدولية لمجلس الأمن أو لمؤسسات عربية وإسلامية ذائعة الصيت، أولقادة ومسؤولين دوليين، أوموظفين دبلوماسيين كبار، أولسياسيين محليين يشغلون مواقع نجومية. ولا توفر أحياناً النهش حتى في المؤسسات العاجزة والعالقة في جسد الثورة السورية والواقع السوري. هي إذن ثأرية النكتة أومضمونها الثأري الذي يحفزعلى السخرية والطعن في واقع غير إنساني ومتبلد بالمطلق، إزاء أدنى واجباته الأخلاقية؛ وفقدان الحد الأدنى من الضميرالإنساني الذي يوجب وظيفياً على تلك البنى والمؤسسات أن تسلكه حيال الهمجية والبدائية الإستثنائية التي تتوالى على الأرض السورية يومياً، وأحياناً بإقرارٍ ومشاركة فعّالة من العالم أجمع.
تفتح النكتة في واقع السوريين فتوحاً جديدة كلما ازداد الحصارعليهم، وكلما ادلَهَمَّ الظلامُ عليهم، وهي بذلك تراكم أدباً وفناً خاصين أو متوالدين من المأساة السورية، فتعمل على قراءتها قراءة ثانية، ولكن على شكل ملهاة. ومن هذا التحقق تبدو وكأنها “غائية “، هادفة ، ذات صلة محكمة غير شكلية بجوهرالأحداث التي تترى، تغلق آفاقاً مسدودة، وتزيح عوائق خانقة. إنها تلعب الدورالوظيفي السياسي والمجتمعي في آن، حيث لا إمكانية للتعبيرات الأخرى التي تبدي عجزاً مؤكداً..في واقع داعش ومحيطها تسيرالنكتة جنباً إلى جنب لفك اختناق الواقع، ولعتقه من إساره غيرالمعقول وغيرالمحتمل أوالمتخيَل، كذلك في واقع النظام (وبشكل أكثر انفضاحاً في واقع إعلامه وتصريحات مسؤوليه وشبيحته)، حيث يتداخل الغريزي الجنسي بالسياسي والثأري، وكما توحي لنا كتب التاريخ بأن دورمهرج الملك أو مضحكه في البَلاط ،حيث يكثرُالنفاق والكبت والحروب الخفية المستعرة والمؤمرات والدسائس، كانت أحياناً تُلزِم ضرورةً بصرف هذا الواقع وتفريغ استعصاءاته، بحيث يصحُّ القولُ إن دورالمهرج في بلاط الملوك لم يكن ترفيهياً دوماً كما يُظَن ويُتوهم، وإنما هو دورٌ وظيفي وسياسي بامتياز.
تحتاج النكتة إلى البراءة، أو درجة ومستوى منها، وهي في الأصل تعبيرعن تلك البراءة المطلقة التي يتم فيها إدخال المستوى المختلِط بين الوعي واللاوعي في سرديتها غيرالمألوفة..لتصويب الأنظار نحو قناعٍ، أو لنزعِ قناعٍ عن واقعٍ مُقنع، وفي مثال النكتة البريئة بالمطلق أستشهد بقصة يرويها ابن الجوزي في (أخبار الحمقى والمغفلين)، حيث يحدثنا عن أعرابيين اختصما إلى شيخٍ عالمٍ، فقال أحدهما للشيخ: أصلحك الله إن صاحبي هذا لا يُحسِنُ قراءة أيةِ آيةٍ من كتاب الله عز وجل. فاعترض صاحبُه الآخر قائلاً: قد كذب والله، إني لقارىءٌ لكثيرٍ من الآيات في كتاب الله. فقال له الشيخ: فاقرأ علي إذن مما تحفظ، فقرأ الأعرابي:(عَلِقَ القلبُ الربابا * بعدما شابت وشابا)، فقال صاحبه مغتاظاً: والله ما حفظ هذه الآية ولا تعلمها إلا البارحة.
تنزلق النكتة في كل الاتجاهات نحو اللامُتخيل وغيرالمألوف؛ وهي، بعكس المنامات والأحلام، قادرة على التكيف والتوقف عند محطات العقل حيث تشاء ومتى أرادت، ودون أن تفقد السيطرة، كالحلم، على الواقع. فهي بذلك تعرف كيف تختبرالواقع وتتحكم به..بل إنها تعيد إنتاجه وتأصيله على مرتكزات جديدة، ولها القدرة الراسخة على ركز مستوى من المفاهيم في ذهنية المتلقي، بحيث تجعل من مادة الإضحاك تمارس ضغطاً خفياً لاشعورياً على عقل المتلقي، فهي إحدى الوسائل النقدية المستكشِفة للواقع والمهشمة له دون أنياب وأسلحة حادة.
والحديث يطول حول موضوع النكتة ، وذو صلة..
8/3/2016