أحمد الظاهر
في سنين خلت، وفي مواسم الصيف، كنا نعود من فترة اللعب المسائي متعبين مرهقين، فقد كانت العاب تلك الأيام تشبه الأعمال الشاقة وأخص لعبة (الضايع) التي كنا نركض فيها بضعة كيلومترات، هرباً من الفريق الآخر الذي يبحث عنا ومنا من كان يوغل في هروبه ليصل الجسر العتيق، واللعبة الأخرى (ياحميّد جاك الفلاح) التي يقضي فيها الخاسر وقته وهو ينطُّ على قدمٍ واحده ضمن مربع الطباشير باحثاً عن ضحية ليرفسه رفسة حرّة تعلن خسارته وقيامه بدور صاحب القدم الواحده، وكنا نختم اللعب بلعبة مريحة (خويطيش) ثم نؤوب إلى البيت كأننا أعجاز نخل خاوية، نغسل الأيدي والأقدام والوجوه مكرهين بأوامر الأم التي تحضر العشاء، نتعشى ثم نستلقي أو (ننسدح) على ظهورنا وتبدأ رحلة الفلك والأجرام السماوية حيث تلعب الأم دور الفلكي وهي تجيب عن أسئلتنا حول النجوم التي كانت تتزاحم في السماء وبكثافة.. فتلك المجموعة هي( الثريا) وتلك (الميازين) والنجمة اللامعة هي (معشية الرغاث) وهذا السديم (مسحال الكبش) بزعم أنه طريق السماء الذي اقتيدَ به (الكبش) فداءً لاسماعيل النبي ، لاحقا عرفنا أنه درب التبانة وأما تلك المجموعة فهي (شيالات ابوهن بالنعش)، مع ملاحظة أنه لايوجد شيء في السماء اسمه كوكب و كل النجوم ترد بصيغة المؤنث (نجمة وليس نجم) تصديقاً لعبدو موسى حين غنى أغنيته الشهيرة (ياعنيّد يايابا) وأثبت فيها نجومية الأنثى وبالتالي أنثوية النجوم حين أكد أن: (كل البنات نجوم )، وهذا قول فصل غير قابل لإثبات العكس في تلك المرحلة فوالدتي رحمها الله تصر أن النجمة التي تظهر بجانب القمر هي فتاة ماتت ولم تتزوج حبيبها فتم مكافأتها بمعجزة حولتها لنجمة تظهر قريبا من القمر وأما أنا فقد كان خيالي الشعري المبكر يكمل القصة وهي أن تلك النجمة الأنثى كانت تعشق القمر الذكر وستتزوج منه قريباً تعويضاً عن استشهادها عشقاً.
اليوم وبعد أكثر من أربعين عاماً من تلك الحقبة لم تعد النجوم بتلك الكثافة في السماء هاجرت بعض النجوم ومات بعضها ( فشيالات أبوهن بالنعش) (شالن) حملنَ أبوهنّ وأخوهنّ وأمهنّ واكتملت عليهن دائرة اليتم ولاأدري في أي بلد اختفين أو في أيِّ مخيم نزلنَ، وأما (معشية الرغاث) فقد اختفت بعد أن مات الرعاة والقطيع وأمحلت الأرض ولم تعد تنجب العشب بسبب الدماء فقد قالت أمي يوماً أن الأرض التي يجري فيها الدم (تزعل) سبع سنوات عجاف، وأما (الميازين) الميزان فقد اختل ترتيبها بعد أن رجّح العالم كفة الطغاة، وأصبح( مسحال الكبش ) درباً نُحِرَت فيه آدميتنا ودون فدي ، وأما لعبة (الضايع) فقد تعممت علينا كلعبة سورية بامتياز، وصرنا جميعاً نلعب دور الضائع وأوغلنا في الهروب أبعد من الجسر العتيق فعبرنا محيطات، وبحار وقارات ولم تنته اللعبة بعد، وأما حميِّد والفلاح فما زالا ومازلنا معهم داخل مربع الطباشير ننط على قدم واحدة ونتلقى الرفسات من أصدقاء الأمس أعداء اليوم، ودون تبديلٍ للأدوار، ولاشيء يوافق حالنا سوى لازمة حضيري أبو عزيز في إحدى أغانيه…. حميّد يامصايب الله.
شاعر وفنان تشكيلي
اترك تعليقاً