إبراهيم العلوش
في كل مدن العالم تم افتتاح المدارس في شهر أيلول، إلا في الرقة، فإن التعليم رجس من عمل الكفار والمرتدين، كما يزعم مجرمو المخابرات الدولية الذين احتلوا الإسلام، ويعملون جاهدين على جعله ديناً للجهل وللحقد وللإرهاب، متحايلين حتى على تحية الإسلام: السلام عليكم.. وليس الإرهاب عليكم!
في شهر أيلول كانت المكتبات تفتح أبوابها، وكأنها كانت مسافرة وعادت بدفاترها وبصورها وبصدريّاتها، وبأدوات الهندسة ومختلف ألوان الأقلام و الأدوات المدرسية من محّايات وبرّايات، وأغلفة التجليد الورقية الزرقاء، والنايلون الشفاف الأبيض أو الأزرق، أو الجلاتين اللاصق الذي يحميها من العبث.. من عبثنا نحن في الدروس وفي الباحات، ومن عبث اخوتنا الصغار الذين يلذّ لهم الشخوطة على الأغلفة وعلى الصفحات التي تتسبب لنا بالعقوبات من قبل المعلمين المختلفي الأمزجة والعقول، من المعلم الرائق والمحب، والذي يعبّر عن اخلاق المربي الفاضل، حتى المعلم أو الموجه العنجهي المتصابي، أو المستعرض لعضلاته اللفظية السوقية في كثير من الأحيان متحججا بضبط الطلاب وخاصة غير المؤدبين منهم، وكان حرّيا بكثير من معلمينا أن يكونوا قصابين، أو رعيان غنم وليس مربين لأجيال المستقبل.
تحضر للذاكرة هنا صور العلوم الجاهزة من حيوانات برية كالبط والوز والفيل والحصان، وبحرية كالسمك الصغير والحوت والاخطبوط، وصور تشريح الرأس والأذن والعين والعضلات والهيكل العظمي، وصور نباتات وأشجار نتعجب من خضرتها في مكتبة شروف التي كانت تعج بالصور، ومكتبة الخابور المليئة بالكتب وبالمجلات، ولا ننسى مكتبة السويحة في السوق، ومكتبة شواخ في شارع سيف الدولة، ومكتبة أبو عنتر الزعيتر وغيرها من المكتبات التي افتتحت لاحقا وكانت أكثر تطورا وأكثر تلبية للمتطلبات المستجدة في التعليم، رغم أن الناس لا ينسون مكتبة آل حقي التي لم يرها جيلنا و لا الأجيال اللاحقة!
هجمت المؤسسة العامة الاستهلاكية على سوق الدفاتر، وأصدرت أعدادا هائلة من الدفاتر الموحدة اللون والشكل وعليها صورة حافظ أسد، وجعلت الدفاتر الشهيرة تتوارى مثل دفاتر مكتبة الأديب وغيرها من المكتبات الحلبية التي كانت تورد بضائعها إلى الرقة!
ومع هجمة المؤسسة الاستهلاكية هجم مدربو العسكرية وناشطوا الشبيبة وأمناء الفرق الحزبية على المدارس لاحتلال عقول طلابها وتوريط الكثير منهم للتعاون كمخبرين، أو كأبواق للشعارات المطاطة والبراقة، وجعْل الناس ينتظرون توحيد الأمة العربية بعد ألف سنة لتتمكن هذه الأمة الموحدة مخابراتياً من منح الحريات للناس كنوع من المكافأة على الوحدة العربية، حيث يعرف الأمن العسكري وغيره من أنواع الأمن أن هذه الشعارات مجرد جرّافات لفتح طرق الهيمنة، ولكسب المزيد من الوقت، لتمكين أجهزة التنكيل والقمع من رقاب الناس.
وهكذا هجمت، صورة حافظ اسد بعد الدفاتر، وبشكل سرطاني، على اللباس وعلى الكتب وعلى جدران المدارس وفي الصفوف حتى وصلت إلى الشعار المقيت: قائدنا إلى الأبد!!… وليتحول هذا الشعار إلى شعار القتل المباشر: الأسد او نحرق البلد!!
رغم كل العسف فإن الناس ظلوا يتعلمون، وظلوا يسعون بأطفالهم من مدرسة إلى أخرى ومن دورة خاصة إلى أخرى، مجنبين أبناءهم اضاعة الوقت في الخطابات وفي التقارير وفي الخراب البعثي المنظم، الذي أدى إلى هذا الدمار الكبير الذي نعيشه اليوم!
تحولت أحوال المعلمين والمدرسين، وتميزوا بمستوى مادي عال بعد موجة الدورات الخاصة، وتحول الكثير منهم إلى مجرد آلات لتكرر المناهج عشر مرات في اليوم، أو أكثر من عشر مرات، لكسب المزيد من المال.
وتقاسم الكثير من المدرسين الأكفاء السمعة السيئة مع مدربي الفتوة والمسؤولين الشبيبيين والطلائعيين والحزبيين في المدارس، حتى أن الكثير منهم سكت عن الكلام المباح في الصفوف والدروس المقررة بحجة تعبه من الدورات الخاصة التي لا تنتهي قبل منتصف الليل!
وتخرّج الكثير من الطلاب بالتفوق الحفظي غير المبدع، والذي أمّن لهم أعلى العلامات وأحسن الفروع الجامعية، ولكنهم لم يعودوا مهتمين بالشأن العام، ولا بالقراءة ولا بالثقافة ولا بالفن، لقد تخرجوا كمجرد حرفيين يجنون المال في مكاتبهم وفي عياداتهم وفي وظائفهم العامة والخاصة.
كان من الممكن أن ترتقي بلادنا إلى مستوى أعلى من العلم ومن التطور لولا إرهاب النظام وعمالته وتخريبه للمنظومة التعليمية، وكذلك لولا محتكري الإسلام، الذين تحالفوا مع النظام بمنع المدارس من فتح أبوابها في الرقة، سواء خوفاً من قصف الطيران، او من حملات التكفير والتجنيد الإرهابية!
جاء أيلول آخر ولم تفتح المدارس أبوابها، ولم يشتر الطلاب أقلاماً ودفاتر جديدة، ولم يذهبوا إلى صفوفهم.. فهل نحن على موعد لإعادة الطلاب إلى صفوفهم في الشهر القادم أو في أيلول القادم، أم حُكم على أهلنا وأبنائنا أن يعودوا إلى العصور الحجرية؟!!
[…] الرقة: دفاتر أيلول وأقلامه! […]