Views: 92 تأملات في كتاب إدارة التوحش (3) – الرقة بوست-Raqqa Post

تأملات في كتاب إدارة التوحش (3)

تفسيرات لارتكازات العقدية للسلفية الجهادية 

الرقة بوست – خاص

معبد الحسون 

لا شك أن جانبَ الإثارة ودَوْرَ الإغراء سوف يلعب جانباً هاماً، مثل أفلام “الأكشن” ودور عروض الأزياء، ولا شك أيضاً بأن خطورة”صناعة الشيطان” لا تكمن فقط في نجاح(أو عدم نجاح)إنتاج الشيطان كسلعة دولية عالمية، بل إن الخطورة الكبرى تكمن في أن من يتصدى لصناعة هذا الجسم المتشبع بأخطار لا متحددة، سوف يلزم نفسه، أو تلزمه الثنائيات بأن يخترع تصوراً جديداً عن”الله”؛ حتى لا نبالغ في القول بأنه يمهد للعالم بفكرة ما متصَورة عن الله، أو”المسيح الذي سوف يعود إلى العالم” في رسالة جديدة ومضمون جديد، مناسب لدرجة رقي وتطور هذا العالم.

النموذج الكلاسيكي القديم الذي صوره يوحنا، صاحب”سفر رؤيا يوحنا”، لاخَفاءَ بأنه قد فقد بريقَه، وتبخّرَ الكثيرُ من ألوانه الزاهية بفعل السنين وتعاقب القرون، مع أن السِفر ينصُّ صراحة على أن”وحشاً ما”،(كما سماه تماماً السيد أبو بكر ناجي: إدارة التوحش)سوف يخرج من باطن البحر الكبير العظيم، البحر المتوسط، وسوف يُخضِع ملوكاً وشعوباً..الخ.. لكن ثمة نموذجاً أحدث وأمثل حرفة في صناعة الشيطان؛ تأملناه ملياً في مسرحية غوته:”فاوست”، وتعرفنا على السيد “مموفستوفيلس”، الذي ساوم فاوست مساومة واضحة وصريحة وشاقة أكثر من وحش يوحنا، الذي بدا أشبه بحالة حلمية هلواسية استيهامية، معبرة وملهمة، لكنها بلا حياة خاصة ولا تفاصيل، لكن مشكلة مموفستوفيلس، الشيطان الأكبر لدى غوته، تشابه مشكلة إبليس الكلاسيكية والتقليدية في الأديان القديمة جميعها، فهي تعبر عن الخير والشر بسذاجة مكافئة لسذاجة شعوب العالم القديم، فالشر منتج بسيط وطبيعي يستند في كثير من قدراته وإمكاناته على ماهو مُتَصَوَّر في الذهنيات أولاً، وعلى  تطور الشهوات والغرائز التي سعت الأديان القديمة أن تضعها مقابل الفضيلة، وبهذا الشر البسيط البدئي النموذج تم اكتمال مجد الله ومد مساحات نوره على الأرض كلها وعلى الكون أجمع نكاية بالشيطان وقمعاً له، وبحيث يتم استيعاب درجة الخطر التي يمثلها ويتمثل بها الشيطان، أو قوة الشر الحية والمتدفقة في هذا الكون.

لا يخلو الأمر إذن من مشروع حوار جديد، مكافىء لدرجة النضج العقلي الذي وصلته الإنسانية، والتي فارقت طفولتها تلك منذ آماد بعيدة، ولم تعد الأسطورة تلعب دوراً هاماً في وجدانها العميق كما كانت في الماضي، بيد أن الأمر ليس بالبساطة التي نتخيلها؛ فالمقطوع به أن الذهنية المعاصرة نقدية، ودائماً مفتوحة الشهية على الاعتراض وطرح الأسئلة والاستفسارات، صحيحٌ أن اللاجدوى وفقدان المعنى والملل الذي بات سمة من سمات هذا العصر قد يحشو كثيراً من الإجابات على تلك الأسئلة المعلقة ويتمم فراغاتها، بحيث تبدو مقنعة(أو هي واقعية إلى حد ما حتى لوفقدت ميزة الإقناع والكفاية فيه)، لقد سقطت الإشتراكية، وانهارت معظم الفلسفات القديمة، وتراجع المنطق بكل تصانيفه المدرسية المألوفة حيال التجريبي.. بل إن الدين نفسه بات يلعب أضعف الأدوار وينال أقل درجات الاعتبارات في عالم اليوم، خاصة في العالم الرأسمالي والمجتمعات المتقدمة.. تقدم الأنترنيت على الكتاب، وحلَّ المشاهَد والمسموع في الثورة الرقمية والاتصالات الحديثة محل الخيال والاستلهام والتصوف، فلماذا لايكون لثنائية الخير والشر والنور والظلام وقوة العالم الحر إزاء قوة الأشرار الذين يملؤون شقوق هذا العالم ويختبؤون في ظلامه الدامس صورة جديدة؛ صورة معاينة ومشاهدَة وطرية بتفاصيلها الحية؟ ولماذا لايكون لهذه الثنائية القدرة على إعادة إنتاج عالم مابعد الحداثة وما بعد العولمة وما بعد المنطق؟

تراودني بعض الشكوك بأن”ديستويفسكي” قد تنبأ منذ القرن التاسع عشر بصناعة الشيطان وظهور داعش وأشباهها.. أو بـ(مصيبة وفدت من آخر آسيا و نزلت بأوروبا, وأن جميع الناس سيهلكون إلا قلة قليلة مختارة)، وهذه النبوءة، فيما لو صحت، سوف تُحسَب له فتحاً جديداً يضاف إلى فتوحاته ونبوءاته وهو يقتحم مستقبل الجنس البشري في كثير من أعماله الأدبية وتصوراته. الفكرة كما سوف نلاحظ كانت واضحة ومشعة في عقله، وإن جرى التعبير عنها في مناسبات مختلفة من خلال كتاباته.. ولقد رأى أن يضعها على لسان “راسكولنيكوف” في الأسطر الأخيرة من رواية (الجريمة والعقاب)، أو بالأحرى أن يدسها بين أحلامه ورؤاه المتقلبة المتقطعة بعد أن وصل إلى معتقله في سيبيريا واستقر فيه بضعة أيام ليقضي عقوبته المقررة بعد اعترافه بجريمته. ديستويفسكي يسمي تلك النبوءات المدسوسة في ثنايا عالم راسكولنيكوف الشديد التعقيد بـ”الهذيانات”.. أو تلك الأحلام التي”كانت تأتيه من وقت لآخر”.. فلنقرأ كيف ختم ديستويفسكي ملحمة راسكولنيكوف في الجريمة والعقاب بهذه السطور:

(قضى راسكولنيكوف في مستشفى السجن نهاية الصوم الكبير كلها و أسبوعاَ آخر. فلما أصبح في دور النقاهة تذكر الأحلام التي رأها حين كان راقداَ يعاني سكرات الحمى و الهذيان. لقد حلم طوال مدة مرضه بأن العالم كله قد كتب عليه أن تلمّ به مصيبة رهيبة لا عهد بمثلها من قبل, مصيبة وفدت من آخر آسيا و نزلت بأوروبا, وأن جميع الناس سيهلكون إلا قلة قليلة مختارة. إن طفيليات من نوع جديد قد ظهرت, و اختارت أجسام البشر مسكناً لها. غير أن هذه المخلوقات المكروسكوبية كائنات مزودة بعقل وإرادة, والبشر الذين تدخل أجسامهم يصبحون على الفور مجانين مسعورين, و لكنهم يَعُدُّون أنفسهم على ذكاء عظيم لم يزعمه البشر لأنفسهم في يوم من الأيام قط, فهم يعتقدون بأنهم معصومون من الزلل مبرأون من الخطأ.. في أحكامهم.. في نتائجهم العلمية.. في مبادئهم الأخلاقية والدينية. إن قرى و مدناَ و أمماً بكاملها قد سرت إليها  هذه العدوى وفقدت العقل. أصبح أفرادُها يعيشون في حالة جنون, لايفهم بعضهم عن بعض شيئاَ, لا يفهم أحد منهم عن أحد شيئاَ, كل واحد يؤمن بأنه الإنسان الوحيد الذي يمتلك الحقيقة, فإذا نظر إلى الآخرين تألم و بكى و لطم صدره وعقف يديه لوعةَ وحسرة؛ أصبح الناس لا يستطيعون أن يتفاهموا على ما ينبغي أن يُعدَّ شراَ و ما ينبغي أن يُعدَّ خيراَ؛ أصبحوا لا يستطيعون لا أن يدينوا ولا أن يبرئوا. أصبح البشر يقتل بعضهم بعضاَ تحت سيطرة بغض لا معنى له و كره لا يُفهم. هم يجتمعون ليؤلفوا جيوشاَ كبيرة, فما إن يدخلوا معركة حتى يندلع الشقاق في جميع الصفوف فتنحل الجيوش, و يأخذ الجنود يهجم بعضهم على بعض, فيعض بعضهم, و يذبح بعضهم بعضاً, و يلتهم بعضهم بعضاَ. في المدن يدق ناقوس الخطر طوال النهار ويستنفر الشعب. ولكن من الذي يستنفره؟ و لماذا يستنفره؟ ذلك أمر لا يعرف أحد عنه شيئاً. الرعب يستبد بجميع الخلق. المهن العادية هجرها أصحابُها, لأن كل واحد يعرض آراءه و إصلاحاته, وما من أحد يستطيع أن يتفق مع أحد. الزراعة أهملت إهمالاَ تاماَ. هنا وهناك يجتمع أناس فيشكلون جماعات ويتفاهمون على القيام بعمل مشترك, متعاهدين بأغلظ الأيمان على أن لا يفترقوا قط, ولكنهم ما يلبثوا أن يشرعوا في شيءٍ لا يمت بأية صلة إلى ما عقدوا النية على القيام به, ثم ما يلبثون أن يأخذوا في التراشق بالتهم, ثم ما يلبثون أن يقتتلوا فيذبح بعضهم بعضاً. و تشتعل الحرائق و تظهر المجاعة. كل شيءٍ يصيبه الدمار, و جميع الناس تقريباَ يهلكون. البلاء ما ينفك يشتد قوة ويتسع مدى. و لا ينجو من البلاء إلا عدد قليل من الناس: هم الأنقياء الأطهار, المصطفون الأخيار, الذين كتب عليهم أن “ينشئوا جنساَ جديداَ وأن يقيموا حياة جديدة”, أن يجددوا الأرض ويطهروها. غير أن أحداَ لم ير أولئك الأفراد  في أي مكان, ولا سمع أقوالهم ولا سمع أصواتهم. إن الشيء الذي كان يعذب راسكولنيكوف هو أن ذلك الهذيان السخيف يترجع في ذاكرته ترجعاَ أليماً, و أن الانطباع الذي خلفته تلك الأحلام لا يمحى إلا ببطء).

يالها من نبوءة مخيفة حقاً.. سبقت داعش والقاعدة والمحافظين الجدد بمائتي عام تقريباً..

لست أدري إن كان السيد أبو بكر ناجي شخصاً حقيقياً وكياناً حياً أم هو مؤسسة، ولا أعلم إن كان فقيهاً ومفكراً سلفياً أم هو جهاز استخبارات؛ أو هو مؤسسة سرية عليا تشرف على توجيه أجهزة المخابرات وتديرها وتوجهها، لكن ما يستلفت الانتباه بقوة إلى هذا الجنين الموعود الذي أثمر فيما بعد ولادة داعش، هو سؤال هام يتصل بموضوعة الشيطان نفسه، والذي سماه”غوته” “مموفستوفيلس”؛(وبالمناسبة، فإن “أوزوالد اشبنغلر” في كتابه (تدهور الغرب)، حين صنف الحضارات البشرية ورصد تطورها، وأطلق عليها مسميات من عنده تطابق رموزها ومضمونها كما يعتقد، اختار أن يسمي الحضارة الغربية باسم”الحضارة الفاوستية”، وليس في التسمية صدفة خالية من المعنى)..

وأعود إلى السؤال: هل كان الشيطان يعلم بأنه هو الشيطان؟ وبتعبير آخر: هل كان الشيطان في تاريخه الطويل الذي عرفته البشرية به، من خلال مبدأ الشر الذي يُحمل عليه، واعياً وعياً داخلياً لفكرة أنه هو الشيطان وأن هذا الشر هو مجرد مهمته المسنودة إليه، أو هو المخلوق الموكول إليه فعل الشر وصناعته في هذا الكون؟ أم أنه كان يعي بأن الشر شيئ نسبي لا وظيفي، وليس له ماهية أو صدور محدد.. وأن رأي الآخرين في شره قد يكون خاطئاً و تعليلياً مضطرباً، ومبنياً على تصورات وأحكام مسبقة نابعة من قيمهم الدينية الصارمة التي لا هوادة في تصنيفاتها..؟

يبدو أن غوته في مسرحية فاوست قد حاول الإجابة على هذا السؤال بطريقة مبطنة وغير مباشرة،(وهذه في رأيي واحدة من الأسباب، وجزئية من الجزئيات التي خلدت عبقرية مسرحيته وكتبت لها الخلود): إن “الشيطنة” ليست فعلاً مضمراً بالشر المطلق كما يتوهم البشر”العاديون”، بل هي عقد بين طرفين، ومقايضة متكافئة بين عقلاء مسؤولين عن تصرفاتهم.. فهل كان جواب غوته في فاوست شافياً وكافياً لاستيعاب سؤال كبير كهذا؟ الجواب، في رأيي،هو: لا.. إن قوة العالم الحديث، عالم الكتلة المتحكمة والقوة والصناعة والمال والرأسمال المعولم والإعلام الحديث، والتي خططت وصنعت داعش؛ كان لها جواب آخر ورأي آخر.

ـ يتبع ـ

 


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage