إبراهيم العلوش
على الرصيف الرقاوي تجد العاشق المولّه الذي ينتظر أمام مدرسة البنات، وتجد الصوفي الدرويش الذي ينتظر شيخه وهو خارج من الجامع، وتجد منتظري باص النقل الداخلي الصامتين والملتفتين جميعاً إلى الجهة المتوقعة لمجيء الباص الذي يجرجر خردته من موقف إلى آخر… وتجد أيضاً المتزاحمين أمام الأفران منذ ساعات أو منذ أيام وسنين، وربما منذ أن خلق الله الخلق…
ويجلس على الرصيف أفراد العائلات التي خنقها الحر ولم تجد تسلية غير مراقبة المارة والسيارات، وهم يشربون الشاي الذي صار يترافق لاحقاً مع الأركيلة.. وترى الفقراء والمفلسين الذين ليس لديهم تسلية إلا تكرار المرور على الأرصفة، ريثما تُرهق أجسادهم، ويستطيعون العودة إلى بيوتهم القاحلة… للنوم!
وأرتزق المحافظون بشكل دوري بفواتير تبديل الأرصفة وتجديدها، وهذه مأثرة سورية في هندسة الأرصفة ونهبها… رغم أن التبديل كان ينحصر في مركز المدينة وقرب الدوائر الرسمية، بينما تظل أرصفة شوارع رميلة، والمشلب، والسباهية، والأحياء الفقيرة الأخرى، تراباً في الصيف، ووحلاً في الشتاء.
وتقفز على الرصيف سيارات أصحاب شهادات السواقة الوهمية، وتطارد المارة وتهدد حياتهم، مقابل مبلغ دفعه صاحب الشهادة لضباط شرطة المرور الذين كانوا في خدمة المواطن وتوصيله إلى الإفلاس.. ولاحقاً توصيله إلى حتفه!
على الرصيف ترى المتسولين من مختلف الأصناف والأشكال، ولعل أشهرهم (مشو) الذي كان يتسول برفق وحنان وبابتسامة نادرة، ويعتمد على مقولته الافلاطونية:
- (اللي عنده اليوم.. واللي ماعنده بعدين!)
ولا تنافسه الا ابتسامة لطيفة لمتسول أعمى كان يخترق السوق الشرقي ويطلب من الناس برفق وهدوء، وكان يلبس فوق محرمته البيضاء النظيفة، قماشة خضراء ويحمل خيزرانة رفيعة يستكشف بها مكان خطوته القادمة!
وعلى الرصيف تجد الدرويش أبو عمشة الذي يضطر أحياناً للنزول من الرصيف إلى الشارع ليهتز بكل قطع جسده، وهو يتجه إلى مزار عمار بن ياسر في مقبرة (ويس)، قبل أن تسلبها إيران وتستولي على أرض المقبرة وتحوله إلى قاعدة فارسية تتقنع بقناع الدين، ولتؤول فيما بعد إلى جبهة النصرة، ومن بعدها إلى داعش التي دمرت حتى الجامع، في سباق الحقد الذي تحترفه، وتضحي بكل الناس، وبكل القيم، وحتى بالدين نفسه، لإرواء جحيم النار المتقدة في نفوس قادته من ضباط مخابرات صدام المفطومين عن الهيمنة والسيطرة!
وفي الصيف يحتل باعة الجبس والبطيخ الأرصفة البعيدة، ويشخرون ليلاً وظهراً، على مبعدة من أكوام بضائعهم المنضدة على شكل تلال خضراء وصفراء، مفترشين كرتونات سميكة، وغافلين عن اللصوص الصغار الذين يختطفون ما يستطيعون بدافع المغامرة أكثر منه بدافع الجوع والحاجة.
وعلى الرصيف تجد باعة البسطات الفقيرة، وتجد صناديق الخضار التي يدفع بها أصحاب الدكاكين إلى الرصيف للفت أنظار المارة، ولقطع مرورهم علّهم يشترون منها. وتجد باعة اللبن والجبن في الصباحات الباكرة، وباعة الفطر والكمأ و البيض العربي، وبعض المنتوجات المنزلية البسيطة، وخاصة في السوق الشرقي، وفي شارع تل أبيض. وتجد مصلحي الساعات بطاولاتهم المربعة الصغيرة، أو الاسكافيين الفقراء الذين يضعون عدتهم أمام بعض الدكاكين مقابل أجرة أو مقابل خدمات يقدمها الاسكافي لصاحب الدكان.
وتجد أيضاً بضائع التهريب المحمية من ضباط المخابرات ومن المسؤولين، تحتل الرصيف وجزءً من الشارع، وهي تبرز الأسعار الخيالية لبضائعها في الثمانينات خاصة، عندما صارت تنكة السمنة حلماً، وعلبة المحارم أجمل هدية!
وعلى الرصيف تجد زبائن خمارة فواز في ساحة الكرنك حيث لا يعترف لهم إلا بحق التبول… فلا موالح، ولا حبة فاكهة، ولا علبة ساردين… ولا هم يحزنون!
وقد ازدهر رصيف تلك الخمارة في نهاية السبعينيات، أيام الشركة الرومانية (روما غريمكس) حيث كان عمالها الرومان يشربون البراندي بفناجين القهوة، وكانت الطاولات دائمة الازدحام بفناجين القهوة البيضاء!!
وعلى الرصيف تجد نقاشات زبائن المقاهي المنغمسين في لعب الورق، أو في تكرار ما قالوه قبل نصف ساعة، أو نصف شهر، أو نصف عام، أو قبل عبور نصف أعمارهم المدمنة على التكرار والآمال الخادعة!
ولا يخلو الأمر من مقاه ينشط فيها النقاش والنقد، وإن لم تتطور لتكون مقاه ثقافية أو سياسية أو اجتماعية وازنة، ولقد تدخل الأمن في تجمعات المثقفين في مقهى عمار وياسين الجدوع التي كان الدكتور عبد السلام العجيلي يحضر نقاشاتها لماماً، وتم استدعاء الدكتور محمد الحاج صالح وسؤاله عن مصدر تمويل الجلسات الرصيفية في مقهى (عمار) حيث كان كل واحد من الجالسين يدفع الحساب عن نفسه بشكل منفرد.. وهذا ما أثار بعض الطاولات الرصيفية لبعض المستشيخين، وسمّى طاولتنا بطاولة القرباط: كل واحد يدفع عن حاله!!!
ولا ننسى رصيف مقهى (آبل) عند الكنيسة، حيث كان ملتقى لناشطي الثورة ولمناقشاتهم، قبل أن تتسلل إليه الذئاب المنفردة الداعشية، التي تجمع المعلومات وترشح قوائم الخطف والاغتيال، ولم ينفع انتقالهم إلى مقهى (نيكاتيف) في الدرعية، الذي اطبقت عليه العيون اعتبارا من عيون مخبري أحرار الشام، وصولاً إلى اغلاقه بعد احتلاله من قبل داعش!
وكان إلى جوار مقهى (آبل) مقهى (عبد القادر) للأنترنت الذي كان يرتاده رواد (آبل)، وأذكر أن الصحافيين الفرنسيين اللذين اختطفا من قبل داعش كانا يجلسان فيه، وكثيراً ما يأخذان كلمة السر منه ويجلسان في (آبل)، وقد توفي محمد اسماعيل الكعب أحد العاملين في المقهى مع عروسه وأمها وعدد من أخوتها وأخواتها في قصف للطيران الأسدي قرب محطة أبو هيف، وفيما بعد فتح مهند الفياض مقهى انترنت مقابله، خلف الكنيسة، وتم اختطافه من قبل داعش منذ سنتين!
وعلى الرصيف تجد المنتظرين أمام المجمع الحكومي وهم يحلمون بإنجاز معاملاتهم البسيطة التي ذهب بها بعض الشطار والوسطاء، لمواجهة شراسة الموظفين وتحقيرهم للمراجعين، مقابل رشاوي تدفع لهم، وللموظفين الذين كانوا دائما يحتقرون مراجعيهم حتى ولو كان الموظف فقيراً، وحديث التوظيف، فإنه يتقن فنون الازدراء وابتزاز المراجع، والتعالي على حاجاته التي دفعته للحضور إلى الدواوين والمكاتب.. الأماكن التي كانت لا تقل قسوة عن المخابرات، وإن كان الأمر أكثر نعومة، فتأويلات الموظف للقوانين تنوس من أقصى الرفض، إلى أقصى الحنان والابتسام والتعاطف، خاصة إذا كان المال قد وصل لجيب الموظف، أو أن تهديداً ما قد وصله أو ضغطاً عليه من قبل أحد أقاربه، أو أهل زوجته، أو جيرانه، أو حتى من أحد الفروع الأمنية التي كانت تمتهن السمسرة في القضايا الكبيرة، وتكسب المال، والمخبرين الذين يقدمون الخدمات الأمنية في سبيل انجاز معاملاتهم الكبيرة أو حتى الصغيرة!
على الرصيف أيضا تجد أهالي النساء اللواتي تم اسعافهن إلى مستشفى التوليد، تجدهم طوال الليل والنهار جالسين على الرصيف المحاذي، والرصيف المقابل وعلى المنصف العريض وسط الشارع، حيث قامت البلدية بتبليطه من أجل ان يبيت المنتظرون عليه ريثما تلد المرأة التي جاؤوا معها، وطوال سنين عديدة لا أحد يهتم لهم سواء كان الجو حاراً، أو ماطراً، أو قارس البرد!
على الرصيف تجد ايضاً المتهمين من قبل فروع الأمن، والذين يتم استدعاؤهم لينتظروا أمام المحارس المسلحة، لكي يستعرض قادة الفروع سطوتهم، بإبراز أعداد المنتظرين أمام فروعهم ومفارزهم التي تشبه دكاكين القصابة وهي تستعرض اللحم المسلوخ والمعلق بالكلاليب أمام أبوابها!
وعلى الرصيف أمام الجوامع انتشر الشبيحة في بداية الثورة، وهم يحملون عصيّاً غليظة لضرب المتظاهرين السلميين، وكان الأمن يجمعهم على شكل مجموعات وينقلهم بسيارات بين المناطق، ويتعاون مع النقابات والفرق الحزبية المعبأة بشحنات القناعة المخابراتية، التي تؤله القائد، وتحتقر الناس وتعتبرهم مجرد أدوات للخيانة والعمالة، للتغطية على الخيانات المخبأة من قبل النظام اعتباراً من تسليم الجولان، وانتهاءً بتدمير البلد وتسليمه إلى إيران وروسيا!!
وعلى الرصيف ينتظر أيضاً أهالي المعتقلون لدى داعش، وهم يستفسرون عن أبنائهم وعن مصيرهم المجهول، تجدهم يفترشون الكرتونات ويتبادلون المعلومات والاشاعات، ويخفي بعضهم المعلومات عمن تم اعدام ابنهم في ساحة من ساحات تل ابيض، أو معدان، أو غيرها من المناطق التي حولتها داعش إلى مسالخ بشرية!
على الرصيف تناثرت أشلاء ضحايا عدة مجازر، ومن أهمها مجزرة شارع تل ابيض ومجازر شارع 23 شباط والفرن الآلي الذي صار هدفا استراتيجيا لقوات الأسد.. وكذلك مجزرة المتحف التي مرت ذكراها السنوية الثانية قبل عدة أيام (25/11/2014) وكانت حدثاً مهوّلاً، حيث لم يعرف العدد النهائي لشهدائها حتى الآن، ولكنه لا يقل عن مئتي شهيد، بالإضافة إلى أعداد لم يتم احصاؤها من الجرحى والمعذبين الذين يتعايشون مع الآلام والخوف من امتدادات الجروح والتهاباتها التي لا يجدون دواء لعلاجها، مما يجعلهم معذبين بأجسادهم التي اخترقتها شظايا القنابل الروسية والأسدية، معذبون مع عائلاتهم بآلامهم التي لا تنقطع أبداً… لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً، وليس من مجيب لتأوهاتهم في ليالي العذاب الطويلة!

[…] http://www.raqqapost.com/2016/11/29/19596 […]